انفجار اجتماعي وشيك.. الفقر يهدد أكثر من نصف الشعب اللبناني

المرصد الاقتصادي للبنان في البنك الدولي توقع أن يصبح أكثر من نصف السكان فقراء بحلول 2020 (الجزيرة)

تتفاقم الأزمات في لبنان، ويخيم شبح الفقر على يوميات اللبنانيين، وهم متروكون لمصير مجهول تتحكم بمفاصله قوى داخلية وإقليمية من دون أفق للحل.

لم تكن مفاجئة الأرقامُ الصادرة عن المرصد الاقتصادي للبنان في البنك الدولي، الذي توقع أن يصبح أكثر من نصف السكان فقراء بحلول 2021، وأن تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 194%، ارتفاعا من 171% نهاية 2019، ورجّح تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بشكل حاد إلى -19.2% عام 2020، بعد انكماشه بنسبة -6.7% عام 2019، معتبرا أن انهيار الليرة أدى إلى معدلات تضخم تجاوزت حد 100%.

وكان حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة حذر من أن المصرف يستطيع دعم تمويل استيراد السلع الأساسية لمدة شهرين مقبلين فقط، بعد أن تناقص الاحتياطي القابل للاستعمال لحدود 800 مليون دولار، فيما الاحتياطي الإلزامي غير القابل للاستعمال هو 17.5 مليار دولار.

وعلى وقع التحذيرات الدولية، لم تخرج اجتماعات اللجان المشتركة في البرلمان اللبناني لمناقشة مسألة الدعم والاحتياط الإلزامي في المصرف المركزي بنتيجة، كذلك لم يصدر أي قرار إجرائي عن اجتماع عقد الخميس للغاية نفسها في المجلس المركزي لمصرف لبنان، بينما سربت معلومات عن إجراءات مطروحة من بينها رفع الدعم عن السلة الغذائية مقابلة استبدالها ببطاقات تمويلية للأسر الأكثر فقرا، مما يعني أن اللبنانيين أمام خيارات صعبة.

توسع الفقر

يسترجع الخبير اللبناني في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر أديب نعمة، دراسة صدرت عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووزارة الشؤون الاجتماعية في أواسط التسعينيات، كشفت -بناء على دليل أحوال المعيشة- أن نسبة الفقر تبلغ في لبنان 35%، ولم يرتفع هذا الرقم حتى عام 2019 الذي انفجرت في نهايته الأزمة الاقتصادية والمصرفية.

لذا يعتبر نعمة -في تصريح للجزيرة نت- أن بين 50 و60% من سكان لبنان هم فقراء من قبل حلول 2021، مما يجعل تقديرات البنك الدولي واقعية جدا. ويعود نعمة إلى تعريف معنى الفقر، بأن كل فرد أو أسرة لا تكفيها مواردها لسد احتياجاتها الأساسية تعتبر فقيرة.

وبناء على أرقام دائرة الإحصاء أيضا بشأن متوسط دخل الأسر في لبنان، تبين أن 18% من الأسر تتقاضى شهريا أقل من الحد الأدنى للأجور البالغ 650 ألف ليرة، وهناك 44% من الأسر تتقاضى أقل من مليون و200 ألف ليرة (نحو 150 دولارا)، وأن 73% من الأسر يقل دخلها الشهري عن مليونين و400 ألف ليرة (نحو 300 دولار)، بحسب خبير مكافحة الفقر.

ويرى نعمة أن تقرير البنك الدولي تحت شعار "الكساد المتعمد"، اتهم السلطات في لبنان -التي وصفها بـ "صانعي السياسات"- بالمسؤولية عن التأخر في اتخاذ إجراءات إصلاحية فعالة، مما أدى إلى كساد اقتصادي شاق، مقابل إغراق اللبنانيين بنتائج فسادها وسوء إدارتها للأزمات.

لبنان يرزح تحت وطأة أزمة مالية حادة يدفع اللبنانيون ثمن تداعياتها (الجزيرة)

دعم الفقراء في خطر

ولعل اتساع رقعة الفقر في لبنان يرتبط بتداعيات إجراءات المصرف المركزي، ولا سيما على مستوى تخفيض الدعم أو رفعه المحتمل، مما قد يجعل كل السلع الأساسية التي يحتاجها اللبنانيون خاضعة لتقلبات السوق السوداء الذي يتحكم بقيمة العملة، بعد أن تجاوزت تداولات الدولار عتبه 8 آلاف ليرة.

ومن وجهة نظر مصرفية، يعتبر الخبير الاقتصادي نسيب غبريل أن دعم السلع في الأساس لم يكن خيارا سليما، لأنه في كل دول العالم يكون ملحوظا في موازنات الحكومات ومن خزينة الدولة وليس من المصارف المركزية.

ويرى غبريل -في تصريح للجزيرة نت- أن هناك جهات تريد رمي عبء الأزمة على المصرف المركزي، بينما تحمل منذ عام مسؤولية تأمين دعم استيراد المشتقات النفطية مع القمح والدواء والمعدات الطبية، وبدأ من تموز 2020 دعم السلة الغذائية المؤلفة من 300 سلعة.

ويتهم غبريل المستوردين باستغلال دعم المركزي الذي يصفه بـ"غير الفعال"، "لأنه يشجع على الاستيراد بكميات كبيرة يجري تخزينها، لتهريب جزء كبير منها عبر المعابر غير الشرعية".

مخاطر استخدام الاحتياطي الالتزامي

يشير غبريل إلى أن المصادر التي تؤمّن إيرادات احتياطي المركزي من العملات الأجنبية جفت كليا، منذ القرار الحكومي بالتخلف عن تسديد اليوروبوند (سندات دين الدولة بالعملات الأجنبية) في مارس/آذار الماضي، كما أن المركزي كان يعتمد على تدفق الودائع من الخارج كمصدر للاحتياطي، لكنها تراجعت إلى حدودها الدنيا، إلى جانب غياب الاستثمارات الأجنبية التي كانت تعتمد على القطاع المصرفي في تعاملاتها المالية، مما أدى وفقه إلى استنزاف الاحتياطي مقابل شح إيراداته.

ويلفت غبريل إلى أن نسبة الاحتياطي الإلزامي تبلغ 15% من مجمل الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف، وفي حال خفّض المركزي هذا الاحتياطي إلى 10 أو 12%، فالأموال المحررة منه يجب أن تعود للمصارف وليس للدعم، وفق رأيه.

وبحسب الخبير المصرفي، فقد قدّم قبل 4 أشهر اقتراحا للمركزي باستخدام جزء من احتياطي الذهب لديه، الذي تقدّر قيمته بـ17.3 ميار دولار.

والحل الآخر وفقه، يكون بالحصول على قروض ميسرة من البنك الدولي لتأمين كلفة الدعم، وكان الحاكم رياض سلامة صرّح بأن احتياطي الذهب موجود في خزنات مصرف لبنان، وأنه محرر من أي قيود سواء في لبنان أو خارجه.

رجل مسن فقير في طرابلس شمال لبنان - الجزيرة
كل فرد أو أسرة لا تكفيها مواردها لسد احتياجاتها الأساسية تعتبر فقيرة بحسب خبراء (الجزيرة)

الهروب من الأزمة

وفي الخلاف القائم على أحقية استخدام الاحتياط الإلزامي، تعتبر الباحثة والصحافية المتخصصة في الشؤون الاقتصادية فيفيان عقيقي أن "ادعاء المركزي الحرص على الاحتياطي الإلزامي هو حجة فارغة، لأنه قبل الأزمة كان لديه نحو 115 مليار دولار من الودائع، أي أن أكثر من 90 مليار دولار تبخرت"، متسائلة: كيف لمن فرّط بكل هذه الدولارات أن يخشى التفريط بـ17.5 مليار دولار؟

ولفتت عقيقي في -حديثها للجزيرة نت- إلى أن المشكلة ليست في استخدام الاحتياطي الإلزامي للدعم، بل في أن لبنان يرزح تحت وطأة أزمة مالية حادة يدفع اللبنانيون ثمن تداعياتها، وترى أن الأجدى هو التفكير في كيفية استخدام الاحتياطي في قطاعات إنتاجية كفيلة بإدخال دولارات جديدة إلى البلد، لأن الاستمرار بالدعم لفترة محدودة دون أي خطة بديلة، هو مجرد تأجيل لانفجار اجتماعي كبير.

وتبدي عقيقي أسفها لأن الأسوأ لم يأتِ بعد، نتيجة توالي الانهيار وانخفاض الناتج المحلي من 52 مليار دولار إلى 18 مليارا، حسب أرقام صندوق النقد، إلى جانب هجرة نحو 45 ألف لبناني حتى أغسطس/آب الفائت فقط، بينما هاجر نحو 65 ألفا طوال 2019، ونحو 40 ألفا عام 2018.

وتستبعد الباحثة حصول لبنان على مساعدة من الدول المناحة، وترجّح اتجاهه إلى نموذج الدول الأكثر فقرا، مما قد يبشّر بارتفاع العنف وتغليب لغة العصبيات السياسية والطائفية. أما المواطنون فسينشغلون بتأمين قوتهم اليومي، لأن عملية التغيير السياسي والإصلاحي ستصبح بالنسبة لهم ترفا.

من جهته، يعتبر أديب نعمة أن نتائج الفقر والركود لم تتكشف بعد في لبنان الذي يتجه في طريقه لانهيار شامل وحتمي، ويرى أن خطورة الفقر ليست بارتفاعه عدديا، وإنما لكونه صار أشد عمقا، ويتوقع أن يزداد فقراء لبنان فقرا، وأن ما لا يقل عن 30% من اللبنانيين سيعتمدون لاحقا على المساعدات الإنسانية لتأمين قوتهم اليومي، والخطر الكبير برأيه سيتجلى بتحول دراماتيكي في نمط حياة من كانوا من فئات لبنان الوسطى، بعد أن صاروا من فئة "فقراء لبنان الجدد".

المصدر : الجزيرة