الدولة الإسلامية ليست مستحيلة عند وائل حلاق

Omran Abdullah - وائل حلاق في المؤتمر (الأناضول)  - لم يكن مؤسس علم الاجتماع فقط.. ابن خلدون وتأملاته الاقتصادية قبل علم الاقتصاد
الباحث الفلسطيني الأصل الكندي الجنسية وائل حلاق يعمل أستاذا في جامعة كولومبيا في قسم دراسات الشرق الأوسط (الأناضول)

منذ نُشر كتاب "الدولة المستحيلة" بنسخته العربية للدكتور وائل حلّاق عام 2015 وحتى أيامنا هذه، أثارت أطروحة أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة كولومبيا العديد من النقاشات والمراجعات والنقد والمعارضة والتأييد.

وتدور أطروحة حلّاق في مجملها حول فكرتين أساسيتين، وهما نقد الحداثة ومنتجاتها المدمّرة -حسب وصفه- وأهم تلك المنتجات الرأسمالية والدولة الحديثة، والثانية اعتماد الإسلام أداة في ذلك النقد كون الدين الإسلامي يقدّم بديلا حضاريا يصلح لأن يكون معيارا يحاكم الحداثة وينقدها.

لذلك، لا عجب أن يوجّه النقد للدكتور حلّاق من فئتين كبيرتين من الناس، الأولى تتبنى الرأي القائل إن الحداثة هي قمّة ما وصل إليه الإنسان اليوم من تطور حضاري، وإن ما ينتج عنها من أخطاء أو أضرار هو نتاج طبيعي لممارسة بشرية يُتوقّع منها الخطأ، لكنّ الحداثة قادرة على معالجة أخطائها وتصحيح مسارها بنفسها.

والثانية تقول إن حلّاق إمّا أنه لا يفهم الإسلام كما يجب، وإما أنه يعطّله عن أن يصبح دينا قابلا للحياة والتأقلم مع العصر وحداثته، فهو -أي حلّاق- جعل الإسلام في مواجهة مع الواقع الإنساني الذي هو الحداثة، وهذا إلزام بما لا يلزم، بل إن الإسلام قادر على أن يكون دينا "حداثيّا"، أو أنه دين قادر على تطويع الحداثة وفق قواعده ومنطلقاته الشرعية، فالإسلام قادر على التزاوج مع الحداثة، وإنتاج دولة متصالحة معه.

وما بين تلك الفئتين وحولهما، تقترب أو تبتعد موجة النقد للدكتور حلّاق وأطروحته التي نحاول في هذه الورقة توضيح سياقها ومنطلقاتها الأساسية التي تقوم عليها، كما سنطرح بعض الأفكار الأساسية التي عرضها لتدعيم أطروحته.

البداية مع نقد الاستشراق

يذكر الدكتور وائل حلّاق أنه حين أراد التعرف على التاريخ والحضارة العربية والإسلامية، اطلع على ما كتبه المستشرقون حول العالم العربي والإسلامي والحضارة الإسلامية السائدة فيه، ولأنه ابن المنطقة العربية الإسلامية واجه للوهلة الأولى عدم ارتياح وانزعاج من الأفكار الاستشراقية عن المنطقة، ومبالغتها حينا واختلالها أحيانا أخرى لدرجة الزيف والتحريف والاختلاق، فما "كُتب عن تاريخ المنطقة العربية والإسلامية كُتب بلغة استشراقية سادت في أوروبا القرن الـ19".

لقد كان القرن الـ19 هو قرن استعمار المنطقة العربية الإسلامية، وكان الاستشراق هو الخلفية الثقافية الفكرية للحركة الاستعمارية الأوروبية التي تفسر أو تبرر ممارساتها وسلوكها الاستعماري وخطابها الذي صاغ المخيلة التاريخية التي نتصورها اليوم عن تاريخنا العربي الإسلامي إذا ما قرأنا التاريخ بالمنظور الحديث.

يرى حلّاق أنه لا يمكن قراءة تاريخنا وفق الرواية الحديثة بمعزل عن أفكار المستشرقين الاستعمارية ومشاعرهم وتحليلهم وفهمهم وتصورهم ومفرداتهم ومصطلحاتهم وكل ما ينتج عنهم لوصف تاريخنا العربي والإسلامي، فكان لا بد من النظر إلى كل ذلك الإرث الاستشراقي نظرة تحليلية نقدية دقيقة تسهم في إعادة فهم التاريخ العربي والإسلامي وفق تصور مغاير للتصور الاستشراقي وأهدافه الاستعمارية.

ومن المشكلات التي واجهها حلّاق في الخطاب الاستشراقي هو تصور المستشرقين للشريعة الإسلامية ونشأتها، إذ يرى المستشرقون أن الشريعة الإسلامية تكونت بعد أن احتلّ المسلمون البدو القادمون من الجزيرة العربية البلدان الأخرى، وقد كانوا مُعدمي الحضارة ويفتقدون القدرة على التفكير والإبداع الحضاري، فهم بطبيعتهم قبائل ضد المدنيّة والتحضر، إلا أنهم استطاعوا سرقة التراث الحضاري للأمم الأخرى، ومنه القانون اليوناني والإغريقي والبيزنطي واليهودي، فصاغوا شريعتهم على طريقة من سبقهم من الأمم.

ولذلك يرى الخطاب الاستشراقي أن القرآن الكريم لم يكن له تأثير إبداعي تشريعي في القرن الأول للإسلام، وإنما احتيج له في النظام التشريعي بعد أن بدأ المسلمون تأليف نظامهم القانوني الخاص على منوال القوانين اليونانية والإغريقية والبيزنطية واليهودية التي كانت سائدة في المناطق التي احتلوها، وكانت فائدة القرآن سد ثغرات التراث الكبير من الأحاديث الملفقة، التي الأصل فيها الكذب ما لم يثبت العكس عند المستشرقين وخطابهم وتصورهم للشريعة الإسلامية!

هذه المشكلة -المثال- ربما يستطيع المسلم البسيط استهجانها ورفضها بهذه الصيغة الفجة، لكن في الحقيقة استطاعت هذه الصورة المزعومة أن تجد لها طريقا سلسا إلى العقل العربي والمسلم بصيغ مختلفة لا تزال تشكل تصوراته عن الشريعة، من ذلك تصوره للشريعة بأنها بناء قانوني، فالقانون اليوم هو الذي يحكم بما نفترضه ضمنا أنه يحوي الأحكام الشرعية في نصوصه، وأنها تشكلت وفق ارتباط وثيق بالسلطة السياسية.

فأحكام "السلطة القضائية" هي الأحكام الشرعية التي كان يصدرها الفقهاء، كما أن هناك موافقة ضمنية على أن القرآن الكريم ما هو إلا أداة استدلال على الحكم الشرعي وليس مصدرا مُنشئا له يُستدل به ولا يُستدل له، فالنص القانوني الإنشائي الجامد هو دليل الحكم الشرعي، الذي يتناول قضايانا اليوم سواء في الأحوال الشخصية أو المواريث أو التعاملات المالية أو العقوبات أو غيرها.

وتخلوا تلك القوانين من أي نصوص شرعية يستدل بها على الحكم استدلالا ملزما إلا من ديباجة تتضمنها أحكام المحاكم أحيانا، ومن ذلك ما طرح خلال القرن الماضي ولا يزال مطروحا وهي مسألة "تقنين" الشريعة، وجعلها في مدونة قوانين نصية تكون مرجعا للسلطة القضائية، وغير ذلك من أفكار يرى المسلمون اليوم قابلية نقاشها وإمكانية تطبيقها، وهي أفكار نتجت عن تصور استشراقي مخالف لما كانت عليه الشريعة قبل ذلك ومخالف لطريقة عملها ومقاصدها.

وهنالك إصرار استشراقي تتبناه الدولة الحديثة وتفرضه، فالدولة الحديثة التي استعمرت منطقتنا العربية والإسلامية بخطابها كما بسلاحها، هي التي تُشكل القالب العملي لتطبيق الأفكار النظرية للفكر الاستشراقي، الذي هو الفكر الحداثي بالتبعية، فالقانون مرتبط بالسلطة، والسلطة تنشأ من العقد الاجتماعي القائم على أن الإنسان الفرد بطبيعته يتمتع بحقوق أساسية يستمدها من الطبيعة المادية التي تخوّله أن يكون (الإنسان) مصدرا للتشريع ومعيارا لأخلاقياته.

ثم إن تلك السلطة يجب أن تكون موزعة على ثلاث سلطات مفصولة، وكل سلطة لها قوانين منظمة تصدر من مؤسسات ينتخبها أفراد لهم السيادة المطلقة في النص على القوانين، بل لهم الحق في وضع مصفوفات الحقوق والواجبات، والتحكم في الثروات ومصارفها والنظام الاقتصادي الذي تدور فيه وتنتج أو تصرف من خلاله.

هذه المنظومة الحديثة للدولة هي الإطار الذي على العقل المسلم التصالح معها، لا على سبيل المناقشة والتعديل والاقتراح، بل وفق سلوك تطويعي للشريعة الإسلامية لتوائم ذلك الإطار، ثم على العقل المسلم تفسير أو تبرير تلك المواءمات بحسب ما تفرضه الدولة الحديثة من اشتراطات، حتى صارت الشورى -ذلك المفهوم الإسلامي الخالص- مقبولة في الدولة الحديثة بشرط أن يُعلن المسلم أن الشورى هي الديمقراطية، أي أن ينضبط المعنى الشرعي بالمعنى العلماني الحديث لا العكس.

إن هذا المثال لمشكلة واحدة من مشكلات عدة يطرحها الخطاب الاستشراقي على العقل العربي المسلم، يبرهن على حجم المشكلات الأخرى، وأثرها البالغ في رؤيتنا لتاريخنا الإسلامي وشريعتنا ودورها اليوم في عالم حديث كان الاستشراق الاستعماري بوابة الدخول إليه، ليس بترسانة عسكرية واقتصادية فحسب، بل بترسانة سياسية وفكرية لا تقل فتكا وتدميرا وأثرا لا تزال تؤطّر أفكارنا وعقولنا، وبطبيعة الحال واقعنا.

الدولة الحديثة.. "حل للأوروبيين ومشكلة لنا"

يرى حلاق أن الدولة الحديثة نشأت في أوروبا لأسباب أوروبية خاصة، ولحل مشكلة أوروبية عانى منها الأوروبيون قرونا طويلة، فالصراع بين الأوروبيين والكنيسة، التي فرضت المسيحية بسيف الملوك على أوروبا الوثنية، كان صراعا مريرا، وزاد من قسوته على الأوروبيين تحالف الكنيسة والسلطة. هذا الصراع أنتج في نهاية الأمر ردة فعل فكرية وفلسفية أوروبية أثمرت الفلسفة الميكانيكية في القرن السابع عشر التي تقول "إن الله خلق الكون ليسير بطريقة ميكانيكية آلية بحتة وغير محتاج ليد إلهية تديره" -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-.

كانت هذه الفلسفة تهدف إلى رفع سطوة الكنيسة عن السلطة السياسية، وكان من صالح هذه السلطة التخفف من تدخل الكنيسة في قراراتها، فاندفع الأوروبيين نحو تبني الفلسفة الميكانيكية لتبقى السلطة السياسية في يد الملك الذي هو سلطان دنيوي في جانب منه بعكس الكنيسة التي تدعي السلطة الإلهية المطلقة.

هذا التموضع الجديد للسلطة خلق مشكلة "مركزية السلطة"، فواصل الأوروبيون محاولاتهم لمعالجة هذه المشكلة المستجدّة -المركزية- عبر اختراع عدة نظريات سياسية تهدف جميعها للتخفيف منها، فابتكروا نظرية للمرجعية السياسية ومشروعية الفعل السياسي عبر نظرية العقد الاجتماعي، ثم احتاجوا لدواعي تطبيق العقد الاجتماعي إلى نظريات التمثيل السياسي عبر البرلمانات، ثم احتاجوا لنظرية فصل السلطات فابتدعوها، وصاحب ذلك ولادة الدولة الوطنية في أوروبا بعد قرون من الصراع على وراثة الإمبراطورية الرومانية المقدسة الممثلة للمسيحية، تلك المسيحية التي انقسمت أيضا إلى عدة "مسيحيات".

ومن تلك المسيرة الطويلة المريرة وما صاحبتها من مشكلات أوروبية خالصة، نتجت في النهاية الدولة الوطنية الحديثة التي استخدمت الاستشراق توطئة فكرية لاستعمار العالم القديم -غير الحديث- لتفرض عليه خلاصة ما توصل إليه الأوروبيون من قوالب وأشكال تمثلها "الدولة الحديثة"، ومن أفكار وقناعات وخلاصات فلسفية تمثلها "الحداثة"، وما تحمله من قيم وما تفرضه من اشتراطات من الواجب على بقية الأمم اتباعها وتبنيها لتلتحق بركب الحضارة الإنساني و"التقدم" الذي على رأسه أوروبا، التي وصلت لنهاية التاريخ، بحسب صاحب النظرية فرانسيس فوكوياما، الذي يقرر أن "منتهى خطوات التطور البشري في الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق"، أو التي ستصل بالبشرية لنهايات أو تصورات أخرى يفترضها ويصوغها العقل الأوروبي في نهاية المطاف!

لا نحتاج لمجادلة التاريخ ولا لإنكار حقيقة تلك النشأة للحداثة والدولة الحديثة، لكن الجدل بيننا هو حول مدى صلاح تلك "النتيجة الأوروبية" لنا نحن العرب والمسلمين، هل علينا تجاوز كل ظروف تلك النشأة للحداثة والدولة الحديثة وما تأثرت به من قيم وأفكار وفلسفات مُزجت بها وصارت جزءا منها متغللا في جميع جوانبها ومنطلقاتها؟ هل علينا طي كل خصوصياتنا الثقافية والحضارية والعقائدية، ووضعها جانبا لاستقبال الحداثة ومنتجاتها كلا متكاملا حتى نلتحق بركب التقدم كما طالب بذلك طه حسين في أوّل أمره؟ أم علينا أن نجعل الحداثة هي المعيار الذي نقارب به، ونراجع أفكارنا وقيمنا ومنطلقاتنا على أساسه حتى تتواءم معه وتلتزم بإطاره ونحن من يتحمل تكلفة ذلك التطويع أو المواءمة؟!

يرى الدكتور وائل حلّاق أننا تبنينا الحداثة نحن الأمة العربية والإسلامية لظروف تاريخية ضيقة دون بحث تلك التساؤلات، ولا الحصول على إجاباتها حتى. ففي وقت مبكر، ونتيجة لحروب الدولة العثمانية مع روسيا القيصرية، دخلت السلطنة العثمانية في أزمات اقتصادية، وإعادة تنظيم داخلي كان منه أن وضعت السلطة السياسية يدها على الوقف وأنشأت وزارة للوقف سنة 1826 ميلادية.

فكان ذلك أول مرة يخضع فيها الوقف الإسلامي المستقل لسلطة الدولة المركزية، فصارت أموال الأوقاف تتحول إلى العاصمة إسطنبول، التي تقرر كم تصرف منه ولمن؟ ودخلنا في مشكلة مركزية السلطة، بعد أن كان الوقف منذ القرن الخامس الهجري الشريان الرئيسي للمجتمع الإسلامي والشريعة واستقلالها.

ثم دخلت السلطنة العثمانية فيما يسمى "عهد التنظيمات"، وهو تغريب النظام الإسلامي في الدولة العثمانية، وبناؤه وفق النموذج الغربي الحديث، وذلك سنة 1839 م. ولحاجة السلطنة العثمانية لطبقة قانونية تابعة للسلطة وموظفة عندها وتتواءم مع التنظيمات والقوانين الجديدة، أنشأت السلطة المركزية طبقة تشريعية جديدة على خلاف 13 قرنا من الطبقة التشريعية النابعة من المجتمع والتي كانت تتكون من "الفقهاء"، فبدأت الدولة العثمانية بإنشاء كليات القانون لتطبيق النظام الغربي.

وفي نهايات القرن التاسع عشر تقريبا، تلاشت الكتابات الشرعية على النمط القديم، وبدأت تخرج كتابات قانونية حديثة ضحلة بديلة عن الكتب الشرعية التقليدية، وكان ذلك نتيجة لتحويل إنفاق أموال الوقف من مصارفها الأصلية من المدارس الشرعية إلى كليات القانون الحديث!

ثم بدأ التلفيق القانوني في الدولة العثمانية سنة 1917 م في قانون الأحوال الشخصية، ثم اختفى منهج تفنيد ونقد ومراجعة القوانين الشرعية -أو "الفقه"- في الأوساط الفقهية، وأصبحت القوانين وتشريعها حقا للدولة غير قابل للتفنيد والمراجعة والنقد من قبل الفقهاء.

وهكذا، أخذنا الحداثة والتحديث بوصفهما منتجا أوروبيا خالصا، تبنته السلطة المركزية في السلطنة العثمانية ليصبح ما كانت تتوهم أنه لحاق بالتحديث والتطور لمواجهة الغرب الأوروبي، وهو المسمار الأول في نعشها والذي دقته بيدها، إذ قبلت التنازل عن تفوق نظام حضاري ذي مصدر سماوي منسجم متماسك استمر مطبّقا 13 قرنا لصالح نظام بشري أوروبي حديث بدأ واستمر وفق مبدأ التجربة والخطأ ولا يزال، ليظهر في عالمنا اليوم أي خطيئة يفرزها ذلك النظام "الحداثي" للكون فضلا عن البشرية.

الإسلام بديل ليس مستحيلا عند حلّاق

يرى الدكتور وائل حلاق أن البديل الحضاري لمواجهة هذا التدهور "الحداثي" يكمن في الإسلام والشريعة الإسلامية، إذ إن الشريعة الإسلامية -وفق حلاق- تدور حول نطاق مركزي يضبط ما يصدر عنها بضابط سماوي إلهي، فهو بالتالي ضابط أخلاقي معصوم بعصمة الشريعة ومصدرها، فالأخلاق هي "النطاق المركزي" في الإسلام، وهي قادرة على مواجهة النطاق المركزي في الحضارة الأوروبية وحداثتها والتي لا تعتمد الأخلاق معيارا ضابطا لسلوكها، بل تعتمد "المادية" والمصلحة النفعية نطاقا مركزيا لها يمكن أن ينحرف ويدمر البشرية كما هو حاصل اليوم في عالمنا.

إن اختلاف النطاق المركزي بين الإسلام والحداثة ينتج -كما يرى حلّاق- ذاتين إنسانيتين متباينتين مختلفتين، وبالتالي، السلوك البشري في كل منظومة ملتزم بنطاقه المركزي سيكون مغايرا للآخر، وعليه سيُنتج نتاجا حضاريا مختلفا وفق نطاقه المركزي الخاص.

كما يرى حلاّق استحالة انسجام النظامين أو تعايشهما أو تكيف أحدهما مع معايير النظام الآخر، وليس بناء على اختلاف النطاقات المركزية فحسب، بل بناء على الطبيعة البنيوية لكل نظام، فالبنية الخاصة في الشرعية الإسلامية والمجتمع المسلم تفرض قوالب خاصة موائمة لتلك البنية، وتنعكس تلك القوالب على طبيعة الحكم والسلطة والمجتمع والقضاء وعلى مفاهيم السيادة والمرجعية والوظائف و"الدولة" و"القانون" و"المواطن"، وهذه المفاهيم الثلاثة الأخيرة مأخوذة بمسمياتها من الدولة الحديثة، إلا أن دلالاتها ومفاهيمها مغايرة ومختلفة في الشريعة والمجتمع المسلم.

إن المشكلة التي تواجه الكثيرين عند محاولة فهم أطروحة حلاّق هي صعوبة تصور البديل الذي يخرج عن القوالب المعهودة للبشرية منذ ما يقارب مئتين سنة، وصعوبة تفسير تلك المفاهيم بمعزل عمّا تعارف عليه الناس اليوم، وهذا ما حمل الكثيرين على الفهم الملتبس لعنوان كتاب الدكتور وائل حلّاق "الدولة المستحيلة"، إذ فهموا أن حلاّق يرى استحالة أن تقوم دولة بنظام إسلامي في عالمنا المعاصر، وهو ما نص حلّاق على خلافه صراحة دون لبس، إذ يقول "على المرتابين أن ينتبهوا إلى أنني لا أدعي، بأي طريقة، أن الشريعة الإسلامية أو الحكم الإسلامي لا مكان لهما في هذا العالم الذي نعيش فيه والذي نأمل أن يعيش فيه أطفالنا، فلا يسمح بهذا الفهم إلا نظرة متعصبة وضيقة وقصيرة الأمد" (الدولة المستحيلة، هامش صفحة 23).

يرى الدكتور وائل حلّاق الاستحالة في أن تكون الدولة الحديثة مستوعبة للإسلام ونظامه، فالإسلام نظام نقيض للدولة الحديثة وليس نظاما توافقيا معها، أي أنه لا يمكن إجراء التحسينات على الدولة الحديثة لتكون دولة إسلامية، لأسباب عدة، ففضلا عن اختلاف النطاقين المركزيين لكلا النظامين، فإن المفاهيم التي تعرّف النظام السياسي أو المجتمع أو الدولة أو القانون أو المواطنة أو الشريعة أو الحكم أو السلطة أو الاقتصاد وفلسفة المال أو النظرة للعلم والنظرة للكون والعالم وما بعد العالم، كلها وغيرها مفاهيم متمايزة مختلفة بين النظامين الإسلامي والحداثي. وهذا التمايز والاختلاف يبلغ درجة التناقض الذي لا يلتقي أبدا، ومن هنا يرى حلّاق أن الإسلاميين الحركيين سياسيا والمسلمين عموما يبحثون عن دولتهم المنشودة في المكان الخطأ ولن يجدوها فيه أبدا، وهنا مكمن الاستحالة، ولذلك يدعو حلّاق في غير مناسبة إلى اجتراح مكان وميدان آخر قابل لقيام نموذج الإسلام المغاير للحداثة.

الإسلام عند وائل حلّاق

تصوّر الدكتور وائل حلّاق للإسلام له عدة منطلقات:
المنطلق الأول هو البعد الغيبي "الميتافيزيقي"، إذ يرى حلاّق ضرورة هذا البعد في العقل المسلم ليحافظ على النأي بالتصور الإسلامي وتطبيقاته عن الحسابات المادية البحتة، ويقرّبه أكثر للمعاني والقيم الأخلاقية التي تراقب الغيب وتتأثر به أكثر من استسلامها المحسوسات المادّية، مما يضفي على السلوك الإسلامي سلوكا أخلاقيا يشكّل النطاق المركزي في الإسلام.

إن الإيمان الإسلامي بقصة الخلق وسبب الوجود والمعاد في نهاية الأمر للخالق سبحانه، يكرّس فكرة أن الإنسان في هذه الدنيا إنّما هو في ممر عبور لا استقرار، وأنه حتى يصل في نهاية الممر إلى الغاية المنشودة برحمة الله مكافأة لإيمانه عليه التزام تعاليم الشريعة التي جاءت بمنظومة القيم الأخلاقية كأساس عقائدي لا سلوكي فحسب، وإنما جاء السلوك وتطبيقات الشريعة ليعكسا ذلك الأساس الأخلاقي؛ قال النبي محمّد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم "إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

على ذلك التأسيس كلّه كانت الأخلاق في الإسلام تمثّل "نطاقا مركزيا" تدور كل التفريعات التطبيقية والقيمية حوله، وتلتزم به معيارا ضابطا لممارسات المسلمين، وهذا ما جعل المسلم يطوّر "تقنية الذات"، وهي الممارسة السلوكية الذاتية القادرة على مراجعة النفس ومحاسبتها وتقويمها عبر المبادئ المحتشدة في النصوص الشرعية، مما جعل النفس المؤمنة قادرة على استمرار المراجعة والنقد والتقويم الذاتي، أما الشريعة على مستوى الأحكام فدورها هو أن تحافظ على البيئة المؤمنة في إطار يسمح بنمو وتطوير "تقنية الذات" الملتزمة بالأخلاق نطاقا مركزيا.

المنطلق الثاني تصوّره للشريعة الإسلامية يبتعد عن كون وصف الشريعة بأنها أحكام للفعل والترك فحسب، فالشريعة عند حلّاق ليست "قانونا" لتنظيم المجتمع الإنساني المسلم، بل يرى (حلاق) أن اختزال الشريعة بوصفها قانونا يخرجها عن دورها وغايتها بوصفها خطابا أخلاقيا توجيهيا يعزز المركزية الأخلاقية في الإسلام بالدرجة الأولى، وما فكرة اعتبار الشريعة قانونا إلا ابتداع استشراقي حداثي يغيب عنه فهم الشريعة ودورها من جهة، ويغيب عنه كذلك تاريخ نشأتها وظروف تكونها من جهة أخرى.

فالشريعة إنما هي سلوك (تصوف) وأحكام في مزيج لا يمكن فهم جزء منه أو تطبيقه وممارسته دون الجزء الآخر، فالسلوك دون التزام الأحكام يطيش بالسلوك نفسه جهة الانحراف والابتداع العقائدي، كما أن الأحكام المجردة ستخرج الإسلام عن غايته الأخلاقية وتنزلق به نحو المعاملة المادية المجردة من المراعاة الأخلاقية.

أنتجت الإجابات والمعالجات التي نشأت من التساؤلات المطروحة والقضايا النازلة والفعل الإنساني في المجتمع المسلم ما سمي بعد ذلك "الفقه"، الذي احتاج لمنظومة علمية متكاملة تبنيه مرحلة بعد مرحلة كلما دعت الحاجة والضرورة لذلك، فالعلوم الشرعية المعضّدة للفقه لم تنشأ وتصنّف في الكتب دفعة واحدة ولا بتخطيط متعمد، بل نشأت في فترات تاريخية ممتدة، تفاعل فيها الزمن والظروف مع الفعل الإنساني الذي كان منضبطا أخلاقيا بالإسلام وبالنص المركزي والمرجع المعصوم المتفق على عصمته بين المسلمين والحاكم المبيّن للإسلام وهو القرآن الكريم.

المنطلق الثالث من الصعب تخيّل القالب الذي يبدو من خلاله تصور وائل حلاق للحكم والسياسة والشريعة "القانون" والمواطنة، ذلك بأن هذه المصطلحات نتخيلها في أذهاننا وفق أشكال تقليدية سادت لأكثر من قرنين في الدولة الحديثة المعاصرة، بل إنه حتى رؤيتنا للدول التاريخية والإمبراطوريات التي كانت سائدة قبل الدولة الوطنية الحديثة، نتصورها من خلال منظورنا الحديث والقراءة الحديثة للتاريخ، فلا نتصور حكما دون سيادة، ولا دولة دون حدود، ولا شعبا دون مواطنين تابعين لذلك الحكم وتلك الدولة، ولا سلطة دون قانون تلتزمه وتقوم على تنفيذه، إن أي تصور للدولة يخلو من ذلك الخيال التقليدي "البدهي" في أذهاننا يعني الفوضى بالضرورة، لكنه لا يبدو كذلك عند وائل حلّاق!

إذا ما كان منطق الدولة ومشروعيتها الناتجة عن العقد الاجتماعي والحق الطبيعي القائم وفق الفلسفة المادية التي أنتجت نظريات الحكم ووسائله في الدولة الحديثة، مرفوضة في فكر الدكتور وائل حلّاق، فلا مناص من اعتماد مشروعية مغايرة تؤسس لنظرية حكم ووسائل حكم مغايرة أيضا، فكيف يتصوّر حلّاق ذلك؟

لقد عمد حلّاق إلى الأساس الذي ينظم المجتمع الإنساني بحيث يعطي لأي شكل من أشكال التنظيم حقا في الوجود والممارسة وهو "المشروعية"، فقال إن كل الحقوق والواجبات المتعلقة بالفرد أو بالجماعة المسلمة منصوص عليها في القرآن الكريم، وعليه لا تستطيع الجماعة بموجب النص الحكيم استحداث ميزات متفردة أو صلاحيات خاصة لفرد أو أفراد من تلك الجماعة وخصهم بصلاحيات استثنائية غير منصوص عليها، وأقصى ما يمكن هو أن توكل الجماعة المسلمة لفرد أو مجموعة مهام تنظيمية محدودة وفق النص الشرعي.

لقد جرّد حلّاق أي سلطة في الحكم الإسلامي من أي خصائص تفضيلية تجعلها أكثر من جهة تمثيل وتنظيم للجماعة المسلمة، فالحكم في الإسلام -وفق حلّاق- ليس له حق السيادة على الناس ولا الأرض، فضلا عن حق التشريع وسن القوانين من أي نوع، والتزام الأفراد تجاه الحكم التزام طوعي اختياري لا جبري، والشريعة أو "القانون" -بلغة الحداثة- ليس سنّها وإصدارها من حق الحكم والسلطة، كما أن القضاء نتيجة رضا اجتماعي واستسلام طوعي هو الآخر.

وإذا جئنا للقوة العسكرية، فالحكم والسلطة لا تحتفظ بقوة عسكرية قادرة على تحريكها وفق الإرادة السياسية الخاصة بها، بل وفق ما تمليه الأحكام الشرعية من دعوة للجهاد أو الدفاع عن الجماعة المسلمة، والمال في يد الناس والمجتمع ومصادره كما مصارفه أمور محددة وفق النص الشرعي الحكيم ولا يملك الحكم والسلطة حق التصرف فيما يعتبر مالا دونما تحديد من ذلك النص.

إن "دولة" ونظام حكم بذلك الشكل هو ما تنادي الشريعة الإسلامية بإقامته، بل إنه قد قام تاريخيا بشكل كامل في فترة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم وخلفائه الراشدين من بعده، أو بشكل جزئي منقوص في الحكام الذين جاؤوا بعد تلك الفترة، لكن حلّاق إذ يقعّد لتلك الحالة المجرِّدة للسلطة والحاكم من كل تلك الخصائص، فإنه يقف عند حدود رسم الشكل الذي سيبدو عليه ذلك النظام وشكل "الدولة" التي يتزعمها، تاركا ذلك لما يفرزه التاريخ من جديد أو يستعيده.

أربع إشكاليات في خطاب حلّاق

رغم وضوح أطروحة الدكتور وائل حلّاق، فإن خطابه المصاحب لأطروحته تحفّه أربع إشكاليات رئيسية ينصرف الكثيرون لمناقشتها دون الأطروحة نفسها، وهذا مفهوم لما تفرضه غالبا الأطروحات المؤثرة من جدل مصاحب يفيدها أو يضرها، تلك الإشكاليات هي:

الأولى: إن الدكتور وائل حلّاق يطرح النموذج الإسلامي بصورة مثالية "طوباوية" خالية من العيوب والمشكلات وكأنه يتحدث عن تجربة معصومة، وهو بذلك يزيد من صعوبة التفكير في استعادة قيام النموذج.

وبحسب فهمي واطلاعي ومشاهداتي لخطاب الدكتور حلّاق، أستطيع القول إنه صرح مرات عدة بعدم القول بمثالية التجربة التاريخية، بل يقر بالكثير من أخطائها وهفواتها وانحرافاتها، لكنه يصر في الوقت نفسه على أن كل تلك الممارسات والخلل البشري الطبيعي عند الممارسة هي أمور جاءت في إطار نظام متماسك ظل يعمل طوال تلك التجربة ولم يتسرب الخلل لأصل النظام، بل كانت حتى الانحرافات تحاول تأويل النظام أو تتذرع به لتسبغ ممارساتها بشرعية النظام وأخلاقيته، وهنا يكمن إكبار حلّاق للنظام وتفاخره به، مما يعطي الانطباع للمتلقي بالقول بمثاليته.

الثانية: شيطنة الحداثة وجميع منتجاتها، وتصويرها بأنها الشر المحض الذي لا خير فيه، وإنكار كل حسناتها مهما بدت واضحة كالتعليم والصحة والتطور التكنولوجي والاكتشافات العلمية.

والحقيقة أن الدكتور حلّاق قد عبّر عن ذلك فعلا وفق تفسير خاص يمكن فهمه وإن لم يوافقه الكثيرون، وهو أن كل ما يدعيه المعجبون بمنتجات الحداثة هي معالجات لمشكلات أنتجتها الحداثة نفسها، فبحسب حلّاق لا يمكن أن تمدح التطور في علاجات مرض السرطان إن كانت الحداثة هي التي تسببت في هذا الانتشار الواسع لمرض السرطان وظهور أنواع أكثر تعقيدا وتطورا منه، لذلك يعبر حلّاق في أكثر من مناسبة عن مدحه "للرجعية" في مقابل حداثة اليوم، أي أنه يقول ليتنا لا نتطور لهذه الدرجة التي تجعلنا مضطرين لابتكار حلول لمشكلات لم تكن لتوجد لولا تطورنا نفسه.

الثالثة: إن أمثلة الدكتور حلّاق في التدليل على وجهة نظره انتقائية، فبينما هو يسوق الدليل الذي يؤيد رأيه، توجد أدلة أخرى تاريخية تناقض أو ضد رأيه.

والحق أن الاستدلال بالأمثلة الهدف منه إثبات الإمكان والحدوث لا إثبات الاضطراد والديمومة والاستمرار، إلا إن كان الاستمرار يُقصد بذاته، وهذا مما لا حاجة إليه أصلا، يكفي للاستدلال للنظرية حدوثها، ولا يمنع من صحة النظرية انحراف الممارسات فترة من الزمن، مثل أن يأتي حلّاق باستقلال القضاء في الإسلام وهذا وقع فعلا ولا ينقضه أنه في حوادث معينة أو فترات معينة وقع أن تدخل الحكّام والملوك في القضاء، ولذلك نقاش الأمثلة والتعليق عليها وإن كانت تثري النقاشات إلا أنها في الغالب لا تثبت ولا تنقض شيئا ذا بال.

الرابعة: عدم طرح الحل العملي لإقامة النموذج الإسلامي والخروج من الحداثة فضلا عن نقضها ورفضها.

في لقاء نشر مؤخرا على منصة 8، وجّه مدير اللقاء عبد الرحمن أبو مالح هذا السؤال "ما الحل؟!" فأجاب الدكتور وائل حلّاق بالتالي "هناك حل، لا بد أن يكون هناك حل، وهذ الحل يكون بتربية جيل يمتلك من القيم ما يجعله قادرا على فرضها ومقاومة الحداثة ورفضها، لكن حتى ينشأ هذا الجيل نحن نحتاج لنظام يوفر الظروف والشروط لنشأة هذا الجيل، أما كيف يحدث هذا؟ فهذه مسألة متعبة لي شخصيا وصعب علي القيام بها".

أخيرا.. أرض لقيام الدولة المستحيلة

ما سطّر أعلاه هو فهمي لما يطرحه الدكتور وائل حلّاق ويكتبه ويجادل بشأنه، وبطبيعة الحال لا يسع هذا المقال أن يتطرق لكل ما جاء في لقاء حلّاق ولا جميع أطروحته المبثوثة في كتبه المفيدة الغنية، إلا أنني من خلال هذا التعليق أجدني متحمسا للمساحة المتاحة والثقب المهم في جدار الواقع الذي نعيشه والذي أحدثه الدكتور حلّاق في أطروحته، فالأفكار تسبق الواقع عادة، وبقدر ما يتحمس لتلك الأفكار أصحابها بقدر ما سيتمكنون من أن يقيموها في واقعهم، كما أن نقاش الأفكار ضروري لنضجها وتطورها وسد خللها، فلا فكرة معصومة ولا تجربة إنسانية خالية من الخطأ والتقصير.

إن المهم في هذا الأمر أن هناك أفقا أوسع فُتح، يمكننا التحليق فيه والبحث من خلاله عن حل لمشكلتنا نحن الأمة والحضارة العربية والإسلامية المطلوب منها القيام بدور استثنائي بحجم استثنائية الرسالة الخاتمة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لهذه الأمة التي أخرجت للناس كافة.

المصدر : الجزيرة