القصيدة كمفتاح لأبواب الحياة الموصدة.. مغامرة الحب في قصائد الشاعر جمال القصاص

جمال القصاص
الشاعر والصحفي المصري جمال القصاص (مواليد 1950) نشر له أكثر من 10 دواوين شعرية بينها "تحت جناحي عصفور" وآخرها "مثل قبلة وأكثر" (مواقع التواصل)

يفيض ديوان الشاعر جمال القصاص بتجربة مليئة بالحب والشعر، بوصفها جرعة حياة وأملا للإنسان عبر استعارات استمدها من عالم مليء بالمشاهد والصور.

إنه بانوراما تمكن من خلالها وضع تجربة بين الشباب والشيخوخة في دائرة من الحنين إلى الماضي وإلى الأصدقاء الذين رحلوا، فهو في مرحلة الشيخوخة التي يحاول من خلالها التلصص على الحياة وممارسة فعل الوجود رغما عن العثرات والأمراض كما يكتب في قصائد حملت العناوين الآتية "ليد لم تبرح أكرة الباب، من يلمس العصفورة أولا؟، لست مشغولا بخفة الغبار، يمكننا أن نوقد شمعة هنا، ربما في ولادة أخرى، في ثوبها القصير الممزق، من ينعش الهواء في الشرفة؟ التحايل على رسم القلب".

"مثل قبلة وأكثر"

وفي كلمة للشاعر جمال القصاص عن ديوانه يقول:

"شكرا للشعر

"سنجد حلا لفروق التوقيت

نتناوب الحراسة بمحبة خالصة

أنت بفانوسك الصغير

تموهين الليل في فمك

وأنا بغبار الحروف

أحرض النهار على فساد الطقس

وأنتما بمشرط الحنين

تعلمانه كيف يكون له موقف ثوري

أخاف أن تنتهي صلاحيته

يبتلعه الطغاة كقرص المهدئ

يفرضون عليه الإتاوة

يجعلونه شعارا للمرحلة"

ويتابع الشاعر للجزيرة نت "هكذا أبدأ اللطشة الأولى في لوحة ديواني (مثل قبلة وأكثر)، أطمئن إلى أن يدي اللصة لم تبرح أكرة الباب، وأن دائما هناك ما ينتظرني خلف الباب الموصد، وليس من قبيل المجاز أن أشير إلى أن الباب هنا هو باب القصيدة والوجود معا، وأنني من خلال فعل التلصص، لن أكف عن النقر والمغامرة، الدخول والخروج، الذهاب والإياب، كأنني في رحلة لا تنتهي، أسابق فيها نفسي، وكلما وصلت إلى نقطة ما، أبدأ الانطلاق من جديد".

غلاف مثل قبلة وأكثر
ديوان "مثل قبلة وأكثر" للشاعر جمال القصاص يناقش قضايا الفقد والحب والمرأة (الجزيرة)

ويردف "ثمة ما يحررني بالكتابة وفي الكتابة، ما يوحدني ما بين معادلة الشعر والوجود، ثمة ما يشتتني أيضا. خارج هذه المعادلة أشعر بأنني في العراء، وأن وجودي محض هبة مبتورة وناقصة وهشة. بل لا غفران لي، ولا حرية، وعليّ أن أبحث عن حريتي من داخل قيودي، بل كثيرا ما أحس بأن القيد نفسه فعل حرية مقموع".

ويتابع الشاعر المصري، "في كل نص أكتبه وأمتلئ به أشعر بأنني أبدأ الحياة، وأن الشعر يولد من حفرها وعثراتها وفجواتها، فقط على حواسي أن تستيقظ بحب، وعلى خيالي وذاكرتي وأحلامي أن تمنحني القدرة على أن أبتسم، وحين أبكي عليها أن توفر للدموع ممرا آمنا، ليس فقط في عيني، بل فيما أحسه وألمسه وأشتهي حتى رائحته، أو مجرد أثر عابر يدل عليه. ربما لذلك أردت أن أكتب ديوانا عن الحب، عن رجل ولد وهو يطير القبلات، يفرح حين يقول للشجرة: أنت أمي، ويفرح كطفل حين ينكش في الطبيعة عن ماضي الزهرة وماضي الإنسان، لكن الأمر دائما لا يسلم من تداعيات الواقع وأمراضه وكوابيسه".

ويقول القصاص "لا أريد لقصيدتي أن تنام في المتحف، أريدها دائما في حضن الحياة، تذكرني بصرختي الأولى:

ثقلت مفاتنها علي

حجر أنا

وزمانها ماء ينام على يدي

شكرا للشعر.. شكرا للحياة".

الحب والكتابة والشعر

لا مراء في أن من يقرأ شعر جمال القصاص يستطيع القبض على اللحظة التي يشترك فيها الماضي والحاضر، إذ يضعنا الشاعر في عالم يشبه قبلة بالمعنى المجازي، فماذا تمثل هذه القبلة وكيف تحولت إلى وحي وإلهام لكتابة هذه النصوص؟

يكتب القصاص في ديوانه مجيبا:

"الشرفة نصف مضاءة/ والسرير غادر مسرح الجريمة/ متنكرا مثل قبلة/ يقولون إنها قصة حب/ عاشقان شطرا الليل نصفين ومضيا".

اختار الشاعر قبلة تحمل دلالات عدة، هي قبلة سارت عبر الزمان حاملة دلالة الحب ومثلت وحي الشعراء العرب منذ العصر الجاهلي وحتى يومنا هذا، كما كانت بارزة كذلك في سيناريوهات الأفلام والصور السينمائية الحديثة.

وهنا -في ديوان الشاعر- تراها أحيانا القبلة المرمية في الدولاب أو قبلة تخرج من فم الغيمة أو القبلة التي علقت في الهاتف أو تلك التي وقعت في الأسر أو قبلة علقت في خصلات شعر الحبيبة أو القبلة التي تشطب فيها حبيبته التاريخ.

"يمكن أن تقلبي الصفحة/ تحفري بئرا في قلبك/ تشطبي التاريخ كله بجرة قبلة/ طبعتها على شفتيك".

من هنا تجده تارة في عالم علوي مليء بالحب وتارة أخرى في عالم مادي تتبدى فيه بلاغة الكتابة من خلال التصوير لما يحيط به من عناصر تقدمها إليه الطبيعة وكل ما يحيط به من تفاصيل يستوحي منها في هذا العالم.

وفي إحدى صفحات الديوان، يقول الشاعر "أيها الرب الجميل/ ذنوبي صغيرة/ بعضها لا يزال نيئا لم ينضج".

كذلك يقول لربه كفعل اعتراف مبتغيا السماح وكأن الألم الذي يعيشه الإنسان يشكل فعل تعويض أو صك غفران للآثام "دائما كنت وحدي/ لم أخن ظلي/ لدي رصيد هائل من الحزن…أحلم برغيف يشبه صكوك الغفران/ بشمعة صغيرة/ أرتق في ظلها جرحي/ أكون بكامل هيئتي/ وأنت تمنحني براءة الإثم".

إنه يذهب بالشعر إلى أقصى ممكناته لتتحقق الجمالية من خلال الإقامة في عالم القصيدة المفتوحة على احتمالات الوجود، ويتعامل جمال القصاص مع القصيدة بوصفها صورة عما يعايشه الإنسان، وما تعتريه ذاته كونها انعكاسا ومرآة تشاغب هذا العالم المليء بالحياة ليخرج إلى عالم مليء بالفن والشعر الذي نزل إلى هذا العالم ليجمّل ما فيه ويحول الشوائب فيه إلى جمال وإبداع.

الشعر كفعل ممارسة الوجود والحياة

يعيش الشاعر في مثلث الحب والعزلة والشعر، وهو مثقل بذاكرة الأحداث الماضية بحلوها ومرها، لتتبدى جدلية الأنا بين ما هو عليه وما يريد أن يكون، فيلجأ إلى التخييل ليبثه في نصوص كفعل تعويض عن نقص الواقع، ليأتي التعبير الشعري عنده متيقظا وينحى منحى مغايرا، ويقول "لعبة الذكريات سمجة/ هناك حقائق يجب تجاهلها/ يكفي ضجيج الألم".

يبني الشاعر قصيدته بتدرج ينطلق من أقصى الحب إلى أقصى الفراغ، ومن أقصى الشباب إلى أقصى الشيخوخة، وكأنه يعيد العمل على ذاكرته يخاف عليها من صدأ اللحظات يمدها بجرعة مضادة للحزن.

الشعر والمرأة

ويقوم الشاعر بمناجاة الحبيبة فتتأرجح الكتابة عنده بين ضميري المخاطب والمخاطبة، لعله يتوجه إلى حبيبة افتراضية اقترفت الغياب والحضور في آن معا داخل نصوصه، فتجده يمسك بأدق التفاصيل ليتيح لقارئه القبض على الذاكرة المستعادة، فهو يقول في مقطع من ديوانه:

"يا شيخوختي الطفلة/ ما أجمل أن أعيش هذا الماضي/ أشعر أن طزاجته تركض في دمي/ أنه ينتظرني إلى الأبد/ يشاركني قفزتي الأخيرة/ في هذا النص".

الشعر بالنسبة إليه شغله وشاغله يتعبه ويريحه في آن، إنه طوق الحرية كما أنه فعل امتلاء وتكثيف لما تبقى من حياة، بل قد يكون من يحدد مصير كاتبه.

"كل ما يشغلني أن أكتب الشعر/ أتأبط ظلي وأخرج/ لا أعرف إلى أين أذهب/ ولا متى سأعود/ يكفي طرقة واحدة على الباب/ ربما أتذكر أنني حي../ سأكف عن كتابة الشعر/ أرتاح قليلا في مرتعي الصغير".

والمرأة هي الشعر ومفتاح القصيدة، وأحب أن يقول لها ببساطة "أنت الشعر/ أنت القصيدة/ هيا اصعدي خلفي فوق الدراجة/ نتنزه قليلا في أحراش النص".

ويكمل "تعرفين أنني أفكر فيك دائما/ أن الحب ينتهي ليبدأ/ ثمة شيخوخة أخرى/ تنتظرنا/ ثمة لهفة/ ستموت لو أعطيناها اسما".

ويبدو الشاعر جمال القصاص في ديوانه غير خائف من الحب الذي يسرق الأحلام أحيانا، بل إنه ينظر إليه من منحى آخر إيجابي تفرضه القصيدة، وهو القادر على تحويله إلى صور يعبث بها كما يشاء في نصوصه ويشكلها بأصابع النحات لتخرج بأبهى حلة، لعلها تكون قصيدة هاربة ولكنه يحاول القبض عليها قبل أن يرتاح من تعب العمر.

المصدر : الجزيرة