احتراق المنزل أم سوريا؟.. رواية "اسمي زيزفون" والعنف الكامن في المجتمع والدولة

تبدو رواية "اسمي زيزفون" محاولة للحفر في أصل العنف الذي تفجر بعد عقود من الحكم بالحديد والنار موديا بحياة مئات الآلاف ومشردا الملايين من السوريين

بطلة الرواية تسرد ما أدى إلى "احتراق سوريا التي سطت عليها القوة الغاشمة وتمادت على أهلها ومصيرها" (الجزيرة)

صدرت حديثا رواية "اسمي زيزفون" للروائية السورية سوسن جميل حسن عن دار منشورات الربيع بالقاهرة، وهي السادسة في رصيدها الأدبي بعد "خانات الريح" (2018) و"قميص الليل" (2014) و"النباشون" (2012) وغيرها من الأعمال.

تدور الأحداث -التي تمتد إلى 480 صفحة من القطع المتوسط- في إحدى قرى الساحل السوري، فتصور لنا غربة القرية عن ذاتها ومأساة من عاشوا فيها فترة حكم البعث عبر بطلتها "زيزفون" التي تجد نفسها مسكونة بهواجس الموت والدمار الذي حل، فتلجأ إلى تدوين مذكرات حياتها.

حب نضج مع الثورة

بينما زيزفون تستيقظ من غيبوبة كادت أن تودي بحياتها، تجد بطلتنا صاحبة الستين عقدا نفسها مضطرة بعد مضي كل ذلك الزمن إلى مكاشفة ذاتها واستنطاق ذاكرتها وخوض سجال مع ماضيها في وقت كان الحاضر فيه قد فقد كل معنى بالنسبة لها فـ "عزمت على الكتابة لا لشيء وإنما للإمساك بالذاكرة قبل أن تذوي وتغور".

الروائية السورية سوسن جميل حسن أصدرت 6 روايات منشورة (الجزيرة)

وعبر المسافتين الزمانية والمكانية التي تقطعها زيزفون من منزل شقيقها برهوم إلى منزلها الواقع في قرية المقص الساحلية الصغيرة، تتذكر أول ما تتذكر حادثة حرقها مقام "أبو طاقة". فمع أن الناس خرجت تهتف بالحرية عام 2011 إلا أن بطلتنا "طاردتها قبلهم بأكثر من 40 عاما" حيث أعلنت مع إشعالها النار في هذا المقام ثورتها الخاصة.

هكذا ومنذ الصفحات الأولى تثير الروائية فضول القارئ حول تلك الحادثة (حرق المقام) ليدرك فيما بعد أن زيزفون الطفلة كانت قد خضعت لاختبار بهذا المزار المؤلف من طاقة (كوة في جدار) على الفتاة عبورها لتثبت أمام حشد من الناس عفتها، وهناك حيث أفلت سعيد كلابه على شيخ المقام لإنقاذ زيزفون.

اشتهر سعيد بقصصه وحكاياته بالقرية فهو "المجنون" الذي يعيش وحدته في غرفة طينية معزولة بالبرية رفقة كلابه، ورغم اعتزاله فإنه علم زيزفون مجابهة القهر والقمع والاستغلال، فكان المعنى العميق لشخصيته الموصومة بالجنون متمثلا في دعوته إلى الحرية والعدالة الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد الثائرين في وجه النظام الحاكم، ونهاية فهو كما تقول القاصة للجزيرة نت "الصوت الذي يدعو إلى التغيير المنشود عن طريق فهم الواقع وتفكيكه بعيدا عن العصبيات والاصطفافات مهما كان نوعها".

وبعد 4 عقود من حادثة إحراق المقام، وتزامنا مع أول هتاف أطلقه الشعب بالساحات، يلتحم الحبيبان (زيزفون وسعيد) لأول مرة فتتسع ظلال الحب ليمتزج مع إيقاع المكان والصرخات المكلومة لحناجر أبنائه "شدني إليه مرة أخرى وهو يقول: أخيرا. لم أفهم. هل تعني أننا التقينا أم إن الشعب ثار، لكن ما الفرق؟ نحن ولدنا من حضن الآلام ومخاض الثورة".

وهكذا، تدرك بطلتنا متأخرة حبها لسعيد، فبعد ذلك اللقاء بوقت قصير سينتهي المطاف به مقتولا وكلابه بالرصاص الحي في البرية، وعلى وقع خبر موته تستحضر زيزفون طيف سعيد، لنعلم أنه كان لها أبا أكثر من كونه رفيقا، كان أكثر من رجل، فهو الهوية والانتماء إلى الأرض والطبيعة والوطن.

وفي الحين الذي يبدو فيه موت سعيد مصيرا تراجيديا لإنسان عاقل ومحب على صعيد القصة، فيبدو نهاية مرحلة تاريخية من عمر الثورة (السلمية) وبداية لأخرى (المسلحة) على صعيد النص، فتقول الراوية للجزيرة نت "إنه موت الحكمة والعقل والسلمية فيما يخص الحالة السورية، ليس سلمية الحراك فقط، فهذا أمر تم حرفه بالعنف منذ البداية، بل سلمية الأفكار والحوار والتشارك والقبول بالآخر".

فضاءات القرية

تتجلى حساسية الكاتبة في "اسمي زيزفون" في اشتغالها على الفضاء المكاني، فتنسج بأسلوب سردي رشيق مسحور بالتفاصيل العناصر المكانية في قرية "المقص" الساحلية مما يجعل القارئ وكأنما هو واحد من أهل تلك القرية، فيعيش معهم ويشاركهم مناسباتهم الاجتماعية، وينخرط مع الشخوص في علاقات الحب والأبوة والأمومة.

أسلوب ترى حسن -كما تقول للجزيرة نت- أنه "ما يتطلبه السرد من عناية بالبيئة المحلية، بكل تفاصيلها المكانية والحياتية والاجتماعية والطقوسية، بل رسم الشخصيات التي تنتمي إليها، وإلى ما هنالك مما يشكل ملامح الحياة، وهي تختص بفترة زمنية صارت تفصلنا عنها فترة طويلة، تغيرت فيها الحياة كثيرا".

تعرفنا الراوية إلى القرية عبر حديثها عن "دكان أم جهيدة" (والدة زيزفون) ومنزلها الذي تحول إلى محطة للعابرين من القرية إلى الشام والعكس، وعبر تلك الزيارات إلى الدكان نتعرف إلى الزائرين الدائمين للقرية وإلى أهلها الذين يعيشون حياتهم البسيطة في دعة وسلام حتى لم يعد بالإمكان التمييز بين غني وفقير "فكل يعمل بأرضه ويحصد ثمار زرعته" ولكن ما هي إلا صفحات لنرى التحول الكبير الذي ستشهده القرية بانتقالها من حياة البساطة المثالية إلى التعقيد ومعاناة التحضر.

ستأخذ القرية ملمحا جديدا لتصبح "تلك البيوت الطينية المبنية بطريقة أكثر حداثة، من الحجر، في طابق وحيد، صامتة اليوم صمت الجنازات والقبور بين الأبنية الطابقية التي أخذت تلتهم المكان وتقضم بساتين الليمون وكروم الزيتون والتين، بعد أن توسعت مدينة جبلة ودخلت هذه المنطقة بالمخطط العمراني الجديد".

ولم يقتصر هذا التغيير على العمران، ولكن طال الحياة الاجتماعية في القرية، فبعد أن كانت حياة رتيبة لا تشوبها شائبة ولا تتأثر بشيء من خارجها، جاءت إصابة والد زيزفون بالشلل كإعلان عن انقضاء زمن ومجيء آخر، سيبسط فيه نظام البعث سيطرته على الدولة لتصير الناس "حشرات بأجنحة ضعيفة وعمر قصير يهنئهم أحدهم على قصره" كما يصبح "الجو مشحونا بين السكان، ولا يعود بإمكان الجيرة الطويلة أن تشفع".

حاولت أن ترصد من خلاله القاصة "هجمة" الحداثة على أهل القرية بشكل فوضوي وغير مدروس تزامنا مع "سعي دائم إلى إجهاض أي محاولة لنهوض الوعي والتمرد على هذا الواقع، هي حياة كانت رتيبة، أوقاتها متطاولة وممتدة ورخوة في الوقت نفسه، لكنها كانت جزءا من المشهد العام في سوريا بكاملها، وكان لا بد من تفكيكها في محاولة لفهم النتائج التي نحصدها الآن" كما تقول الكاتبة للجزيرة نت.

فضاءات الاستبداد

يبدو السرد في معظمه تأسيسا لمشاهد الدمار اللاحقة التي ستصيب المجتمع: دمار القيم والبشر والحجر، لنكتشف مع تقدمنا بالقراءة أن أبناء هذا الوطن هم من سيدمرون وطنهم لا ببنيانه العمراني فقط بل بنسيجه الاجتماعي أيضا، وعلى ضوء انتقادها للأيديولوجيا المحرضة على الحرب نرى الراوية توجه أصابع الاتهام لشخصيات ذكورية ذات ثقافة استبدادية ودموية بينما تظل الأنوثة في "اسمي زيزفون" تقف كمجرد شاهدة على ذلك العنف الدموي.

وترى الراوية أن هذه الشخوص المدعومة من السلطة "هي التي أوصلت البلاد إلى هذه الحال، هم أشخاص فاسدون ومفسدون بالاتكاء على مكانتهم المحمية من السلطة".

وفي العودة لشخصية زيزفون، ندرك مع اقترابنا من نهاية الرواية سبب حاجتها وهي بالستين من عمرها للبوح، فبعد فاجعة مقتل سعيد ثم وفاة والدها وجدت نفسها متروكة في مواجهة ماضيها وتسلط شقيقها شعبان ولم تجد لنفسها عزاء إلا بكتابة مذكراتها التي احترقت مع منزلها.

"حريق قلبي، حريق عمري، حريق حلمي وحياتي الباقية، من يطفئها؟"

تساؤلات تطرحها زيزفون على نفسها وعلى منير بعد أن عادت من البرية لتجد منزلها محترقا بالكامل، فالمنزل احترق واحترق معه تاريخها ومذكراتها والحكاية التي قررت أن تحكيها ساعة أحست بالموت قريبا منها، وليس حريق المنزل بحسب الروائية إلا "احتراق سوريا التي سطت عليها القوة الغاشمة وتمادت على تاريخها وجغرافيتها وأهلها ومصيرها. لكن زيزفون كانت قد قصت الرواية، حتى لو احترق الدفتر، روت حكايتها وقدمت شهادتها، حتى لو كانت مخذولة، لكن لا بد من حفظ الحقيقة بقدر ما نستطيع من أجل الأجيال القادمة".

ونهاية، تبدو رواية "اسمي زيزفون" محاولة للحفر في أصل العنف الذي تفجر بعد عقود من الحكم بالحديد والنار موديا بحياة مئات الآلاف ومشردا الملايين من السوريين.

المصدر : الجزيرة