علاء خالد والاعترافات في السرد الشعري.. الكتابة وتخييل المسافة الفاصلة بين الحياة والموت

يقول الشاعر المصري علاء خالد إنه بالكتابة اخترع ذاتًا جديدة أيضًا "فكل هذه الإشارات والأحاديث الداخلية، بيني وبين ذاتي، وتداخلها مع العالم من حولها، وتماسّها مع نصوص أخرى ونظريات أخرى لتفسير الذات، كل هذا صنع عجينة جديدة للذات، وأوجد غموضًا جديدًا، ترى به الذات نفسها".

علاء خالد شاعر وروائي مصري ولد 1960 واشتهر بقصيدة النثر وله دواوين شعرية وأعمال روائية ونقدية (الصحافة المصرية)

يعدّ الشاعر والروائي علاء خالد المولود في الإسكندرية عام 1960 من الأدباء المصريين الذين أثروا الثقافة العربية منذ تسعينيات القرن الماضي، وقد نبغت تجربته منذ ديوانه الأول "الجسد عالق بمشيئة حبر" عام 1990.

وعلاء خالد أحد مؤسسي مجلة "أمكنة" والمشرف العام عليها، والتي تعدّ من أهم المجلات الثقافية العربية، كما أنه كاتب في مجلات عدّة، وله 8 دواوين شعر و4 روايات و5 كتب في السرد.

كذلك يعدّ خالد من الأدباء الذين تنوّعت تجربتهم بين النثر والشعر من خلال كتابة المقالات والروايات والشعر، وقد تميّز بخصوصيّة عالية في كتاباته الشعرية التي تطرّق فيها إلى قضايا إنسانية، كما أنّه اهتمّ بالآداب والفنون.

هذه المقابلة التي أجرتها "الجزيرة نت" مع الشاعر هي فرصة للتعرّف إلى ديوانه الذي سيصدر قريبًا عن الهيئة العامة للكتاب بمصر "العدم أيضًا مكان حنين"، وللدخول أيضًا إلى جوهر تجربته الإبداعية بمتخيله الشعري وأسئلة الشعر عنده، ورؤيته للعالم، وخياراته الجمالية، ولغته، وعلاقته بالطفولة والحياة والموت والعدم والمشاعر الإنسانية كافة.

  • "العدم أيضًا مكان حنين" عنوان مجموعتك الشعرية التي ستصدر قريبًا عن الهيئة العامة للكتاب في مصر، وهو العتبة التي تمكّن القارئ من الولوج إلى أعماق نصوصك. لماذا هذا العنوان؟ وبم اختلف الديوان عن دواوينك الأخرى؟

ربما السبب المباشر لاختيار العنوان، الذي يشكل بيتًا في إحدى القصائد، أنه يلمس خيطًا من خيوط الديوان، وليس بالضرورة أن يكون معبّرًا عنه ككل. هناك تماسّات خلال قصائد الديوان مع مفهوم "العدم"، مع حضور: الرحلة، الموت، البعث، الخلود. ربما يكتب الديوان في لحظة نهاية ما، فالرؤية تأتي من مكان متخيل خارج الحياة، وتصور "الذات" في مكان جديد، بينه وبينها مسافة.

ولكنه أيضًا يكتب من داخل الحياة، فهو عبارة عن كل ما يؤرّقنا في رحلتنا في الحياة، وتأمّل هذه الأشياء التي كانت تحيط بهذا الجزء الحساس من وجودنا، والذي يعيش داخلنا، ألا وهو الموت.

ألمح في الديوان أيضا علاقة جديدة مع الله، علاقة المحب الذي لا يرفض، ولديه الرغبة في طرح الأسئلة، حتى لو كانت من دون إجابات، فهي أسئلة لا تطرح إلا مع الله، مع الرحلة التي قطعناها في الحياة، لذا تأتي الأسئلة بها حرارة التسليم والمسؤولية معًا، بقدر المساحة التي شغلها "الله" في صميم هذه الرحلة وفي مخيلتنا.

الديوان الجديد امتداد للدواوين السابقة، وإعادة لأسئلتها ومضامينها، ولكن الاختلاف ربما يكمن في مساحة التقبل، وليس الرفض، فالموت هنا يتناسل في مواقع جديدة منها العدم.

أعتقد أن الديوان امتداد للدواوين السابقة، وإعادة لأسئلتها ومضامينها، ولكن الاختلاف ربما يكمن في مساحة التقبل، وليس الرفض، فالموت هنا يتناسل في مواقع جديدة منها العدم، هذا التعدد في مفهوم الموت ربما هو دليل على تغيير موقعه الأحادي والصارم داخل الذات. ربما هذا الديوان له علاقة بديواني الأول "الجسد عالق بمشيئة حبر"، الصادر عام 1990، كما أشار إليّ أحد أصدقائي المتابعين لرحلتي في الكتابة، وهذا معناه أن هناك أطراف دائرة تتلامس.

 في قصيدة "الصندوق الأسود" يقول الشاعر: هناك شريط نادر تحتفظ به الذاكرة/ الصندوق الأسود الذي لن يعثر عليه أحد/ … سيظل هذا الصندوق محتفظًا بتلك الصور التي مرت من وراء الذاكرة/ بينما هناك جزء غير قليل من صور الحياة سيظل مجهولًا وغارقًا في قاع المحيط/ كشاهد على تلك اللحظات الأخيرة التي لم يرها أحد…. لو جمعنا كل الصناديق السوداء من العديد من الذاكرات الغارقة/ لحصلنا على فيلم فريد/ برغم أن كل لقطاته متكررة/ إلا أنه يسجّل بدقة لحظة الانتقال من الحياة إلى العدم.

  • الجمع بين الشعر وعلم النفس مثير، متى تصبح القصيدة عملًا واعيًا؟ وهل حقًّا في هذا الصندوق توثيق لحياة بأكملها ما عدا لحظة الانتقال الأخيرة؟ ماذا تمثّل الصور التي سقطت في قاع المحيط؟

بالتأكيد، القصيدة عمل واع إذا اعترفنا بأن اللاوعي، وطرق تعبيره عن نفسه، يمثل أيضًا جزءًا واعيًا من الذات، وكما كتب عالم النفس جاك لاكان "اللاوعي هو خطاب الآخر".

في هذا الصندوق الجزء الخفي من هذه الحياة بالنسبة إلى أصحابها، أو اللحظات التي لن يحضروها أو يعبروا عنها للآخرين لأنهم قد ماتوا، فالصندوق الأسود يرتبط دومًا بكارثة ونهاية؛ هي تحمل شهادة ما بعد الموت، فالصندوق هو الشاهد أو "اللاوعي"، بالنسبة إلى هذا الموقف، الذي يحفظ لحظة الانتقال، غير المدونة، من الحياة إلى الموت.

ربما القصيدة موجهة أصلًا ليس لأصحابها ولكن للمتفرجين، كأننا في فيلم. ربما تمثل "الصور" التي سقطت في قاع المحيط الحياة الصافية، لحظة الفجيعة، والتحول. أو ربما تمثل امتدادًا للحياة، ولكن في مكان آخر، أو انفصالها عن المكان الأصلي لها. ولكنها أيضًا وثيقة قابلة للاكتشاف مثل أي مومياء.

الطفولة تشكل مرحلة اللاوعي الصافي، بالنسبة إلى الشاعر، بجانب الموت، وهو السؤال الأكبر، ربما من هنا تنشأ أسطورة الخلود أو الرغبة فيه، والتي ترمز لها الكتابة كفعل خالد يتجاوز الزمن.

  •  في قصيدة "كان الموت ينظر إلينا من قلب الخلود" تبدأ بضمير الغائب كأنّ هناك انتقالًا إلى الموت الذي يكتشف الحقيقة ونراك تصوّر هشاشة الإنسان الذي ستأكله الديدان لتنطلق الروح فيما بعد نحو الخلود، هذا الموت الذي لم تستطع طفولتنا إدراكه وكان لامتوقّعًا بالنسبة إلى الطفل الذي يسكننا وها هو يعطينا فرصة وينتظرنا ويمنحنا الجمال. متى تفارق الطفولة الشعراء؟ ماذا عن هذه المعارك والصراعات والتنبّؤ بالنهايات والسقوط؟

ربما لا تغادر الطفولة الإنسان، وليس الشعراء فقط، لأن أغلب الأسئلة تتكون في هذه المرحلة. هناك الغموض الكثيف الذي يلف الطفل، بجانب البراءة، بجانب حرية طرح الأسئلة، التي ليست لمصلحة نظرية أو تمرد، ولكنها لمصلحة النظرة العادلة للكون، فالطفولة مجازًا تحمل عدالة في النظرة إلى الحياة، وما يأتي بعدها سلبًا لهذه النظرة تحت مسمى النضج والتقبل. ربما الطفولة تشكل مرحلة اللاوعي الصافي، بالنسبة إلى الشاعر، بجانب الموت، وهو السؤال الأكبر، ربما من هنا تنشأ أسطورة الخلود أو الرغبة فيه، والتي ترمز لها الكتابة كفعل خالد يتجاوز الزمن.

فالموت كان أحد أعمدة الطفولة، حتى ولو لم يدركها هذا الطفل الذي حملناه؛ كان يتسرب داخل مادة وعي هذه المرحلة، يضغط على هذا الطفل، ومن خلال هذا الغموض والضغط يتجلى الله كإجابة. فما نجهله كان سبب السؤال، وسبب تكوين الصور المتخيلة في عقل هذا الطفل، وبعدها تتوالى الأسئلة والأجوبة، حتى لو لم تكن بقدر خيال الأسئلة.

  • من خلال العناوين نتنبّه إلى من يهيّئ نفسه للموت؛ ففي قصيدة "بعدي" تبادل أدوار واستشراف الوضع بعد الموت حيث ستطغى الوحدة على السرير والشمس والقلم الشعري.. ألا تقلقك اللغة وتربكك بسبب عدم اتساعها لهذا الكمّ من الإحساس والأفكار والرؤى؟

في قصيدة "بعدي" هناك قفز زمني في المستقبل، لحظة ما بعد الموت، فالكتابة تتشكل في مكان لن أراه، ولكن أحاول أن أمتلكه فيها، كأني سأكون شاهدًا على موتي، أو أكون ميتًا وشاهدًا في آن. ربما هو مكان الخلود أو الرغبة في عدم الموت، وتمثله فقط كلعبة، أو أن هناك داخلنا شيئا لا يموت، هو الروح التي تتحول إلى شاهد على الجسد، كما في أسطورة "الكا والبا" الفرعونية، بمعنى القرين الذي يعاين تحولات الجسد بعد الموت ولا يفارقه. الموت يخلق من حوله تعددًا، كنوع من المقاومة ضده.

  • تأتي قصائدك في شكل سيرة أو اعتراف يغلب عليه الوصف النابع من تجربة ذاتية مؤلمة. ما الذي لا يستطيع الشاعر أن يقوله في شعره؟ وهل ثمة حقًّا ما لم تستطع قوله بعد؟

اخترت لكتابتي، سواء في الشعر أو النثر، قالب السيرة، بكل تنوعاتها، وربما في الجوهر منها يقع مفهوم "الاعتراف"، فقد جاءت كتابتي الشعرية منذ بدايتها وبها حس السرد الشعري الذي يتخلله اعترافات، ولكنها ليست كالاعترافات الدينية الموجهة لله وإعلان التبرؤ من الذنب أمامه، ولكنها موجهة للمجتمع بوصفه ذاتا عليا سلطوية، يجب تجاوزها، والتعري أمامها، من دون خجل، كي تقفد مع الوقت قوة دورها العقابي داخل الذات، وهنا يبدأ الفعل الشخصي متخلصًا من ذنوبه ومن العين التي تراقبه وتصوغ علاقته بالخارج.

بالطبع اتخذ الاعتراف أشكالا أخرى بعد ذلك في كتابتي، لم تكن الكتابة عن وقائع شخصية، بل دخل إليها الخيال، واختراع وقائع لآخرين، متخيّلين أو حقيقيين، ضمن جزء من سيرتي، فالذنب الذي ولّد الرغبة في "الاعتراف" ليس فقط ذنبًا شخصيًّا، ولكنه جزء من الذات الجمعية واللاوعي الجمعي، لذا يتكاثر وينتشر في في الواقع والخيال معًا.

بالتأكيد هناك ما لم أستطع قوله بعد، وربما لن أقوله أبدًا، فالاعتراف له قوة انهزامية أيضًا، كما له قوة خلاص، لأنه يضع الذات دومًا في المكان الأضعف أو وضع "المذنب"، هذا السلوك ربما يؤذي الذات التي يبغي أن يخلصها. هناك اعترافات فوق طاقة الذات الكتابية، ولن تصاغ جماليًّا، لذا هناك وقائع ستظل محفوظة في "الصندوق الأسود" للذات.

  • من يقرأ شعرك ينتبه إلى لعبة الذاكرة على مستوى الزمن. ماذا تمثّل لك هذه الذكريات المتسرّبة المعجونة بالحنين ونوستالجيا الأماكن المستعادة بين الواقع والحلم؟ ألا تفكر في الاشتغال على محوها أو أنها أصبحت جزءًا منك؟

لم أفكر يومًا في محو ذاكرتي، بل في شحذها، فمع الوقت أكسبتها الدقة في الوصول إلى الهدف، إلى البدايات، وأيضًا إلى اللاوعي لتشكل هذا النص الذي أبحث عنه. فالذاكرة تربطها بالماضي وقائع ووعود، وليست علاقة مجانية جوهرها الحنين المجاني لما ضاع، بل هناك عقد قديم بين الذاكرة والطفولة، وبين الذاكرة والكتابة، وعلى مرّ العمر تتحول الذاكرة، وتبقى الطفولة حاضرة دومًا مع تطور الذاكرة في الرصد والتحول، وهنا تظهر أكثر من طفولة، لأن الذاكرة فعل متجدد باستمرار.

رواية "ألم خفيف كريشة طائر تتنقل بهدوء من مكان لآخر" للكاتب علاء خالد (الجزيرة)
  • ثمّة تخييل عال للحياة بكل ما فيها من ألم وحزن وحبّ. هل أنصفك الشعر في الكشف عن المناطق الغامضة في ذاتك وفي تصوير أعطاب الإنسان إثر تعرّضه لهذا الكمّ من التشوهات؟

أعتقد أني بالكتابة وصلت بالفعل إلى أماكن غامضة في نفسي، وكانت غامضة لأنها لم يكن لها وسيلة لتظهر بها، وجاءت الكتابة لتلقي الضوء على هذه الأماكن ومشاعرها.

بالكتابة اخترعت ذاتًا جديدة أيضًا، فكل هذه الإشارات والأحاديث الداخلية، بيني وبين ذاتي، وتداخلها مع العالم من حولها، وتماسّها مع نصوص أخرى ونظريات أخرى لتفسير الذات، كل هذا صنع عجينة جديدة للذات، وأوجد غموضًا جديدًا، ترى به الذات نفسها.

بالكتابة اخترعت ذاتًا جديدة أيضًا، فكل هذه الإشارات والأحاديث الداخلية، بيني وبين ذاتي، وتداخلها مع العالم من حولها، وتماسّها مع نصوص أخرى ونظريات أخرى لتفسير الذات، كل هذا صنع عجينة جديدة للذات، وأوجد غموضًا جديدًا، ترى به الذات نفسها.

فالرحلة في الكتابة أضافت "السياق" الذي يمكن به للذات أن تتمرأى به، وأيضا كي تستمتع باختراعها، فالألم، على سبيل المثال، جزء من هذه العجينة، ليس بالدافع "المازوخي" ولكن لكونه أحد مفردات التجربة وبداية التفتّح على العالم، عبر الاصطدام الخاطئ معه، أو الفهم الخاطئ له، ومن هنا  تظهر العلامة/الندبة التي تتحرك منها السيرة.

ليست كل سيرة تتحرك من جرح، ولكنه الأكثر امتلاء بالذكريات والمفاهيم والشحنات الإنسانية التي تدفع الكتابة إلى الأمام، كوننا نريد دومًا أن نتطهر ونتخلص من جروحنا، لتعيدنا الكتابة أبرياء، متخلصين من الماضي، فالكتابة وإن كانت تدور عن الماضي فهي تخلق صفحة جديدة وعتبة بعد هذا الماضي أيضًا.

  • لماذا هذا الحاجز الزجاجي بينك وبين الحياة ولمَ لم تعد وديعة بالنسبة إليك؟ وماذا تمثّل لك هذه الحياة: هل هي الحب أم القصيدة؟ متى يتعرّض الشاعر للسقوط؟ وهل يمكن اعتبار هذه المسألة نوعًا من انعدام الأمل؟

ربما تقدم العمر والإحساس بالنهاية هو الذي يسبّب هذا النوع من المسافة مع الحياة، ويخلق هذا الحاجز الزجاجي، كأن حياتك تسير في طريق أو تظل حياة كما هي، بينما أنت تسير في طريق معاكس لها، انفصالا عنها، لذا يظل جوهر الحياة هو المقياس، كأنها أبدية، بينما نحن فانون.

هذه الحياة لم تكن مدركة في الماضي، أو كانت "شفافة"، كما كتبت في القصيدة، كنت أتعامل معها من دون حرص لأني مثلها خالد كما هي خالدة، ولكن مع تقدم العمر، يحدث الانفصال، وينشأ هذا "الحائط الزجاجي"، كأنها أصبحت تحفة في متحف الخلود والصيرورة، بينما أنا أودعها. ربما تصور الموت أيضا كامن وراء هذه القصيدة.

المصدر : الجزيرة