مركز "فناء الأول" الثقافي بالرياض.. من ذاكرة البنوك إلى أروقة الأدب والفنون

المركز سيحتوي على مكتبة وسيستضيف المعارض الفنية وورش العمل التعليمية والفعاليات الثقافية (واس)

في الحي الدبلوماسي بالعاصمة السعودية، وفي المبنى التاريخي للبنك الأول بحي السفارات، تعيد وزارة الثقافة إحياء البنك المعروف سابقا بالبنك السعودي الهولندي، أول بنك تجاري عمل في المملكة، ليكون هذه المرة مركزا ثقافيا يحمل اسم "فناء الأول" ويحتضن المفكرين والمبدعين وأصحاب المواهب.

وسيستضيف المركز المعارض الفنية وورش العمل التعليمية والفعاليات الثقافية، كما سيحوي مكتبة ومجموعة فنية دائمة ستُعرض في "فناء المنحوتات".

المكان الثالث

ويسعى مركز "فناء الأول" ليكون "مكانا ثالثا" وفقا لرأي عالم الاجتماع الأميركي راي أولدنبورغ، ومكانا مشتركا للناس في مجتمعاتهم بعيدا عن المنزل المكان الأول، والعمل المكان الثاني.

ويتكون المبنى من أعمدة أسطوانية، وهو مزين بزخرفة هندسية منقوشة على الطراز النجدي التقليدي، والذي تتميز تصاميمه بالبرودة النسبية بسبب المواد العازلة للحرارة والمستخدمة في البناء، إلى جانب توفيره درجة عالية من الخصوصية وفراغات داخلية للفناء يمكن استغلالها.

دلالة المسمى ورواد المراكز الثقافية

وتعليقا على دلالة الاسم الذي أطلق على المركز، يقول الباحث السعودي في الفكر والثقافة الدكتور زيد بن علي الفضيل "إن (فناء الأول) يدل على مضمون المشهد واتساع حريته مستقبلا، ذلك أن دلالة لفظة (فناء) كبيرة، وكأن القائم على المشهد يريد أن يقول للمثقف والمبدع: إن النشاطات الثقافية ستتمتع بحريتها المتاحة كالحرية التي يتيحها الفناء لمرتاده، فخياله واسع بوسع السماء التي ينظر إليها".

ويضيف الفضيل -في تصريحه للجزيرة نت- أنه بصفته متابعا لحركية المشهد الثقافي في السعودية، ولكونه فاعلا في جانب كبير من زواياه خلال عقدين من الزمان، استقبل بفرح كبير إعلان وزارة الثقافة إقامتها لأول مركز ثقافي يجمع تحت قبته مختلف الأعمال الإبداعية على اختلاف توجهاتها، وهو مطلب قديم بُذرت فكرته في عهد الوزير الأسبق للثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة، لكنه لم ير النور إلا في هذه الفترة.

زيد الفضيل برى أن "فناء الأول" يدل على مضمون المشهد الثقافي واتساع حريته مستقبلا (الصحافة السعودية)

وعن بدايات المراكز الثقافية في المملكة، يقول الفضيل إن مدنا كمكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة شهدت بواكير المراكز الثقافية التي أنشأها رواد من جيل تأسيس المعرفة أوائل القرن العشرين، والذين اشتهر منهم نخبة مثل محمد حسن عواد وحمزة شحاتة وأحمد قنديل وعزيز ضياء وغيرهم من رموز الثقافة ممن احتفى بهم المشهد، وانتشى بهم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وكتب عن بعض ملامحهم الأديب المصري يحيى حقي في كتابه "كناسة الدكان".

ويشير الفضيل إلى أن "فناء الأول" استمرار لدور المراكز الثقافية بنفس جديد، ورؤية متجددة، مؤكدا أن المراكز الثقافية بحلتها الجديدة وبدلالة اسمها ستقود المشهد الثقافي مستقبلا بصورة عصرية وبشكل أكثر متانة. وأضاف "سنشهد ولادة فناء ثان وثالث ورابع، في مختلف أرجاء المملكة، قريبا بفضل الجهود التي تقوم بها الوزارة وهيئاتها المعنية".

إعادة توظيف المباني

وفي الحديث عن إعادة توظيف المبنى التاريخي الذي صُمم عام 1988، يقول الدكتور مشاري عبد الله النعيم، المتخصص في نقد المعمار، إن هذا المبنى يحمل ذاكرة من يسكنه ومن يستخدمه ومن يتعامل معه، ومن يزوره، وإن المباني بشكل عام ليست مواد صماء، فالكثير منها حظيت بأهمية وقيمة كبيرة وتحولت لمبان رمزية لمجرد زيارة شخصيات مهمة لها.

وأضاف "لا ينبغي أن نفصل العمارة عن الإنسان وذاكرته وذاكرة المجتمعات وتاريخها، فقيمة العمارة ورمزيتها تنمو وتتطور نتيجة لذاكرة المجتمع نفسه وتاريخه، وهذا المبنى على وجه الخصوص يمثل بدايات التعاون البنكي بين المملكة والدول الأوروبية، وله قيمته التي يكمن جزء منها في موقعه، فهو يقع في حي السفارات، وتحويله إلى مركز ثقافي على وجه الخصوص في اعتقادي يعني أشياء كثيرة بالنسبة لوزارة الثقافة ولسكان الرياض ومجتمع حي السفارات بشكل خاص".

مشاري النعيم: مبنى فناء الأول يعبر عن الذاكرة التاريخية لحي السفارات (الصحافة السعودية)

رمزية المباني

وعن رمزية إقامة المركز في المبنى التاريخي للبنك الأول، يشير النعيم إلى أن المباني تصنف عادة إلى 3 مستويات: الأول هو المعنى الظاهر المرتبط بالوظيفة، والمعنى الظاهر لهذا المبنى أنه كان بنكا وأصبح مركزا ثقافيا. أما المعنى الوظيفي، حسب النعيم، فهو أن المبنى عبارة عن كتل بسيطة ظاهرة ومرتبطة بالمكان وتعبر عن هوية حي السفارات.

وأضاف أن المستوى الثاني متمثل في المعنى الكامن الذي يتطور نتيجة للتاريخ وعلاقة الناس بالمبنى، وأن هذا المبنى طور علاقات عميقة جدا مع سكان العاصمة السعودية، ناهيك عن الذاكرة التاريخية للبنك نفسه والذاكرة التاريخية لحي السفارات الذي يمثل نقلة تخطيطية وعمرانية أساسية في مدينة الرياض منذ منتصف السبعينيات.

ويعتبر النعيم أنه من الضروري أن ننظر للحي بوصفه قائدا للفكر المعماري في مدينة الرياض، ويقول "التطور العمراني والمشهد الحدائقي في الحي يمثل طفرة نوعية في التصميم العمراني، وهو يقع على تكوينات جبلية لامتدادات جبل طويق، ويطل على وادي حنيفة، ولذلك فإن وقوع هذا المبنى في مثل هذه المنطقة والحي المتميز وتحوله إلى مركز ثقافي سوف يكتسب معاني رمزية جديدة غير تلك التي تشكلت عندما كان بنكا".

أما المستوى الثالث الذي وصفه النعيم بالعميق "فيتمثل في المعاني المرتبطة بالشفرات الخاصة بالمجتمع، والذي يُقصد به المعنى الترابطي المحمّل بالقيم والرموز التي لا يستطيع أن يفهمها في المباني إلا المجتمع المحيط بها".

المصدر : الجزيرة + الصحافة السعودية