تحولات الثقافة في مجتمعات حديثة.. ما "النهضة الدينية" الجارية في الصين؟

تقليديا، معظم الشعب الصيني لا يقر عقيدة واحدة أو بناء هوية دينية ضيقة، فالصينيون ينخرطون في معتقدات وممارسات متنوعة، وهو نمط من الممارسات الدينية يعود قرونا إلى الإمبراطورية الصينية القديمة

سياح يتجمعون عند مدخل معبد شاولين الصيني الشهير في مقاطعة هينان المعروفة بأنها مسقط رأس طائفة زن البوذية (الفرنسية)

احتفل الحزب الشيوعي الصيني في أغسطس/آب الماضي بالذكرى المئوية لتأسيسه في عام 1921، وسعى الحزب خلال معظم تلك العقود -حسب منتقديه- إلى تقييد أو طمس الممارسات الدينية التقليدية التي اعتبرها جزءا من ماضي الصين "الإقطاعي".

لكن منذ أواخر سبعينيات القرن الـ20 سمح الحزب ببطء بإحياء الدين في الصين على نطاق متعدد الأوجه وبعيد المدى، وفي الآونة الأخيرة أيد شي جين بينغ الرئيس الصيني الحالي وزعيم الحزب الشيوعي استمرار تسامح الحزب مع الدين باعتباره يملأ فراغا أخلاقيا تطور في خضم النمو الاقتصادي المتسارع الخطى في الصين.

ونشر موقع "ذا كونفرسيشن" (The Conversation) مقالا لماريو بوسيسكي أستاذ الدراسات البوذية والأديان الصينية بجامعة فلوريدا تناول ظاهرة تنامي النهضة الدينية في الصين، ورد فعل الحزب الشيوعي الحاكم حيال هذه النهضة.

ويقول الكاتب إن هذا التسامح جاء مصحوبا بمحاذير وقيود ورقابة مستمرة من قبل الحزب الحاكم الذي ينخرط في عملية موازنة دقيقة، فمن جهة تأكيد دوره المزدوج كحارس وأمين على الثقافة الصينية التقليدية، وكونه أيضا راعيا للدين من جهة أخرى.

وبصفته باحثا في الديانات الصينية "فإن هذه التغيرات الكبيرة تهمني بشكل خاص" يقول الكاتب.

نهضة الدين

لا يزال الإلحاد هو أيديولوجية الحزب الرسمية، حيث يحظر على الأعضاء اعتناق الدين.

وقد وصلت مساعي الحزب إلى طمس جميع المعتقدات والممارسات الدينية لأقصى مدى لها خلال العقد المضطرب للثورة الثقافية، من 1966 إلى عام 1976، حيث أغلقت جميع المعابد والكنائس أو دمرت، وتم حظر كل أشكال النشاط الديني حتى عندما كان هناك ترويج قوي لتقديس أو عبادة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ الذي تولى دور الدين المدعوم رسميا من السلطات.

وكجزء من الإصلاحات الرئيسية وتخفيف الضوابط الاجتماعية التي بدأت في أواخر السبعينيات فإن الحزب وافق ببطء على مجموعة من السلوكيات والتقاليد التي تلبي الاحتياجات الدينية أو توفر منافذ روحية، فالبوذية والطاوية والكاثوليكية والإسلام والبروتستانتية (الديانات الخمس المعترف بها رسميا) عادت على مراحل وإن كان ذلك بمستوى متفاوت.

وهناك أعداد متزايدة من المعابد والجمعيات والمهرجانات المحلية، وأعداد متزايدة من رجال الدين البوذيين والمسيحيين والطاويين، والعديد من المواقع الدينية مفتوحة للعبادة الخاصة والخدمة المجتمعية، ويتردد عليها الناس.

وكثيرا ما تحرص الحكومات المحلية على استعادة المؤسسات الدينية وتعزيزها، وذلك إلى حد كبير لتحفيز السياحة والتنمية الاقتصادية المحلية.

ونتيجة لذلك، أصبحت مدينة كبرى مثل شنغهاي موطنا للمؤسسات الدينية الكبيرة والصغيرة والرسمية والسرية، وهي تتراوح بين الأضرحة المحلية والمعابد البوذية والطاوية والكنائس والمساجد، وهناك أيضا مشاركون جدد في الساحة الدينية، وتجسد ذلك في مراكز اليوغا التي انتشرت في العديد من المدن الصينية.

ويبدو أن الناس رحبوا بهذه التحولات في السياسات، وقد وجدت دراسة أجراها مركز بيو للأبحاث في عام 2020 أن 48.2% من سكان الصين لديهم شكل من أشكال الانتماء الديني.

ورغم أن صحة البيانات مختلف فيها -بحسب الكاتب الذي يرى أنه من الصعب إجراء أبحاث موثوقة في الصين- فإن هذه النتائج تشير إلى أن العديد من الصينيين يشاركون في مختلف الأنشطة التي يمكن وصفها بأنها دينية.

مزيج من الممارسات الدينية

تقليديا، معظم الشعب الصيني لا يقر عقيدة واحدة أو بناء هوية دينية ضيقة، فالصينيون ينخرطون في معتقدات وممارسات متنوعة، وهو نمط من الممارسات الدينية يعود قرونا إلى الإمبراطورية الصينية القديمة.

ويشمل ذلك جوانب من البوذية والكونفوشيوسية والطاوية، فضلا عن العديد من الممارسات التي يطلق عليها "الدين الشعبي".

وتتراوح هذه الممارسات بين زيارة المعابد وحضور الحج والمهرجانات والصلاة وتقديم البخور وعبادة الأجداد، وهناك أيضا الممارسات الشعبية من الكهانة أو "فنغ شوي"، وهو فن قديم يعمل على مواءمة البشر مع محيطهم، وكذلك العرافة.

وغالبا ما تكون لهذه التقاليد الغنية اختلافات إقليمية، مثل تبجيل مازو (إلهة البحر) التي تنتشر بشكل خاص في جنوب شرق الصين وتايوان، وهي في الأصل إلهة راعي البحارة، وتعبد مازو على نطاق واسع من قبل الناس من جميع مناحي الحياة والترويج لها كرمز مهم للثقافة المحلية.

التقارب الكونفوشيوسي

توقف الحزب الشيوعي عن انتقاد تعاليم كونفوشيوس الفيلسوف والمعلم الشهير في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وخلال معظم القرن الـ20 تم رفض التعاليم الكونفوشيوسية باعتبارها آثارا فقدت مصداقيتها من الماضي الإمبراطوري، ولكن ذلك تغير على مدى العقود الأخيرة، حيث سعى الحزب إلى إعادة وضع نفسه كحارس للتقاليد الصينية، وقد ساهم ذلك في إحياء الكونفوشيوسية بشكل كبير.

يقدم الإطار الأخلاقي للكونفوشيوسية العريقة إرشادات للتنقل بين حقائق الحياة القاسية في كثير من الأحيان في مجتمع تنافسي للغاية، ولكن الحزب وجد أيضا أنه من المفيد تسخير جوانب الكونفوشيوسية التي يتردد صداها مع مصالحه الأساسية، مثل طاعة السلطة واحترام الزعيم.

وبناء على ذلك، أيدت الحكومة إعادة إنشاء المعابد والمعاهد الكونفوشيوسية، كما رعت مؤتمرات حولها، بل ونظمت محاضرات لمسؤولي الحزب عن التعاليم الكونفوشيوسية.

السيطرة على الدين ورعايته

مع تبنيها مواقف وأساليب ومع وجود سوابق راسخة في تاريخ السلالة الحاكمة للإمبراطورية الصينية فإن الحكومة الشيوعية نصبت نفسها الحكم النهائي من الأرثوذكسية والابتداع أو الممارسات الدينية السليمة وغير السليمة، ويتعين على الزعماء الدينيين دعم الحزب واتباع توجيهاته.

وتحتفظ السلطات بسيطرة إدارية صارمة على جميع أشكال التعبيرات والمنظمات الدينية بأي وسيلة تراها حكيمة أو ضرورية.

ووفقا لتقارير العلماء والصحفيين الغربيين، فإن هذه السيطرة تتراوح بين الأشكال الخفية للهيمنة، والخيار المشترك للجماعات الدينية، إلى الحظر الصريح أو القمع.

في عام 2015 أزالت الحكومة 1200 صليب من مباني الكنائس في جميع أنحاء مقاطعة شينجيانغ، وفي عام 2016 حكمت محكمة في تلك المقاطعة على قس بروتستانتي بالسجن 14 عاما لمقاومته أمرا حكوميا بهدم صليب كنيسته، وفي عام 2018 هدمت الحكومة كنيسة المصباح الذهبي في مقاطعة شانشي.

ونتيجة لذلك، فإن معظم الجماعات الدينية تخطو بحذر وتنخرط في رقابة ذاتية كما لاحظ الكاتب نفسه وآخرون خلال رحلات البحث في الصين.

وتميل الصين إلى التعامل مع الأديان بشكل فظ من منطلق إدراكي ينظر إليها على أنها مهدد محتمل للنظام العام القائم، خاصة إذا اشتبه في وجود علاقات خارجية أو ميول انفصالية، فعلى سبيل المثال، على مدى عقود ضبطت الصين البوذية في التبت بشكل صارم، حيث انتهجت سياسات تهدف إلى قمع الهويات الثقافية والوطنية للتبتيين، وهذا يتناقض مع مواقف أكثر استرخاء تجاه البوذية التي تمارسها أغلبية "الهان".

أما بخصوص حملة الحزب الأخيرة القاسية لقمع المسلمين الإيغور فقد فسرها الحزب بأنها تهدف إلى التصدي "للإرهاب والنزعة الانفصالية".

والإيغور أقلية مسلمة في شينجيانغ، وهي منطقة تتمتع بحكم ذاتي اسميا في شمال غرب الصين.

ووفقا لوثائق مسربة، فقد تم اعتقال ما يصل إلى مليون من الإيغور منذ عام 2014 في "معسكرات إعادة التأهيل"، وهو جزء من سياسة متشددة لفرض العلمانية و"الصيننة"، والتي تعني استيعاب الإيغور في ثقافة الهان ذات الأغلبية، وفقدان هوياتهم الدينية والعرقية، بحسب الكاتب.

وفي الوقت الذي يحتفل فيه الحزب الشيوعي الصيني بالذكرى المئوية لتأسيسه فإنه يسعى إلى إبراز صورة الصين كأمة موحدة تدعو إلى الهيمنة السياسية والاقتصادية العالمية، يتابع الكاتب.

لكن الحزب يواجه في الداخل مشاكل متعددة وينخرط في عملية موازنة: تأكيد دوره المزدوج كحارس وأمين على الثقافة الصينية التقليدية من جهة وعلى الدين من جهة أخرى، ولكن بطريقة تعزز قوته وسلطته بدلا من أن تقوضها.

المصدر : ذا كونفرسيشن