معرضان في باريس عن فيكتور هوغو.. استكشاف الفنان المتواري خلف الكتابة

رغم أن فيكتور هوغو يرسم منذ عام 1830، فإنه كان يحتفظ برسومه لنفسه ولعائلته وأصدقائه وكان يخص دائرة المقربين منه وحدهم بالاطلاع على هذه الرسوم التي لم تنل الشهرة إلا عام 1888، بعد ثلاث سنوات من وفاته عام 1885 

منحوتة لفيكتور هوغو تتوسط المعرض المقام في منزله ومتحفه
منحوتة لفيكتور هوغو تتوسط المعرض المقام في منزله ومتحفه في باريس (الجزيرة)

باريس – فيما يشبه الاكتشاف الجديد لكنوز مخبوءة من آثار فيكتور هوغو (1802- 1885) وعوالمه الخفية، تسلط العاصمة الفرنسية باريس الضوء من جديد على هذا المبدع العبقري في الذكرى الـ186 لوفاته، من خلال معرضين فنيين يشكلان 50 عاما من الشغف الفني ورحلة خفية في الحدائق السرية لصاحب رائعة "البؤساء" ومغامرة فنية مفعمة بالجمال والتحدي والخصوصية.

معرضان أحدهما عن رسومه والثاني عن جنازته، يضجان بالحياة والأمل والبساطة والحرية والأحاسيس والحنين والحب والرومانسية.

في خصوصية العبقرية

بعد 18 شهرا من الترميم والانتظار والتأجيل نتيجة ظروف الأزمة الصحية، افتتح في أواخر مايو/أيار الماضي معرض "في حميمية العبقرية" في منزل ومتحف فيكتور هوغو في ساحة فوج بباريس. ويضم المعرض 200 من الرسوم النادرة وغير المعروفة لعملاق الأدب الفرنسي، ويستمر إلى 21 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.

وسيندهش الزائر للمعرض بروعة المتحف والفضاء وجمالية الديكور الذي احتفظ بكل خصائص وألق وتفاصيل وعبق القرن التاسع عشر مع بعض اللمسات الفنية الحديثة التي لا تعكر صفوه.

رسومات فيكتور هوغو
رسومات ولوحات لفيكتور هوغو في المعرض المقام في باريس (الجزيرة)

المتحف الذي يربض في قلب ساحة فوج التي تنبض باجمل المعارض الفنية وأشهر الجاليرهات الباريسية، ليس إلا الشقة التي سكنها فيكتور هوغو مع عائلته من عام 1832 إلى عام 1848، لذلك فلا غرو أن يغرق زوار المعرض والمتحف بين بقع الضوء والألوان، ولا سيما وهم يتأملون هذه اللوحات الانطباعية أو الطبيعية أو الكاركاتيرية أو التجريدية، أو يشاهدون الكرسي نفسه والمكتب عينه الذي شهد كتابة فيكتور هوغو أغلب روائعه الأدبية، أو يجلسون في صالونه ويمتعون النظر بالتحف الكثيرة والهدايا والصور والتماثيل التي تزينه.

ورغم أن فيكتور هوغو يرسم منذ عام 1830، فإنه كان يحتفظ برسومه لنفسه ولعائلته وأصدقائه وكان يخص دائرة المقربين منه وحدهم بالاطلاع على هذه الرسوم التي لم تنل الشهرة إلا عام 1888، أي بعد 3 سنوات من وفاته عام 1885.

وقد اختيرت اللوحات والـ200 رسم التي رسمها هوغو خلال ما يقرب من 50 عاما، من مجموعات وصور المتحف التي تحتوي على ما يقرب من 700. وقسمت ووزعت هذه المجموعة النادرة من الصور على طابقين وتمحورت حول مواضيع مختلفة كالحب والصداقة والروح وباريس والالتزام والطبيعة والسفر وسواها.

واسترعت الانتباه الرسوم الكاركاتيرية التي تعود إلى المرحلة الأخيرة من حياته، وخصصها للمطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام.

وعن أهمية هذا المعرض ورمزيته أشار جيرار أودينيت، مدير منزل ومتحف فيكتور هوغو وأمين عام المعرض، إلى أن هذا المعرض يكتسي أهمية ورمزية خاصة بالنسبة للمتحف كونه يرافق إعادة افتتاحه بعد الأعمال الكبرى وإغلاقه بسبب الأزمة الصحية.

وأضاف أودينيت في تصريح الجزيرة نت "يعد منزل فيكتور هوغو متحفا يروج له من خلال المعروضات والمجموعات الدائمة والمعارض المؤقتة التي ننظمها بانتظام. وهذا المعرض يكتسي أهمية أكبر من المعارض الأخرى، لأنه منتشر في طابقين من المتحف، ولكن أيضا لأن عرض رسومات فيكتور هوغو، بمثل هذا العدد الكبير، هو دائما "احتفال".

ولفت إلى أن "الرسومات هشة ولا يتم عرضها كثيرا، والرسومات التي تحتوي على إطارات ورسمها فيكتور هوغو نفسه لا يتم إقراضها أبدا، وبالتالي فإن معارض المتحف هي المناسبات الوحيدة لرؤيتها. بالإضافة إلى ذلك، اخترت عرض مجموعات من الرسومات، مثل قصيدة الساحرة أو تلك التي تم إجراؤها في فياندين بلكسمبورغ عام 1871، والتي نادرا ما يتم عرضها بكاملها، كما حاولت أيضا إظهار رسومات أقل شهرة".

وأردف أودينيت "ما تزال رسومات فيكتور هوغو غير معروفة لعامة الناس، ولكنها معروفة جيدا وتحظى بتقدير كبير من قبل المتخصصين والهواة، وتشهد على ذلك الأسعار والقيمة الخيالية التي تصل إليها في سوق الفن. ويحاول هذا المعرض معالجة كليهما، حيث يعرض روائع ويشرح جوانب مهمة من العمل لعامة الناس للوصول إلى إظهار جوانب أكثر تحديدا للهواة".

تقاطعات الرسم والكتابة

ويكشف معرض "في حميمية العبقرية" هذا الجانب الخفي من شخصية فيكتور هوغو وحساسيته الإبداعية المتعددة الأوجه والتي تنفتح على شتى صنوف الإبداع. هو إذن الوجه الحميمي للعبقرية الفنية السرية لصاحب رائعة "نوتردام دي باري"، والمعروفة بـ"أحدب نوتردام".

ورغم أن رسومات فيكتور هوغو ما تزال أقل شهرة من كتبه عند غالبية الناس، فإن التقاطعات بين كتاباته ورسوماته عديدة، حتى لو كان من الصعب إدراكها من النظرة الأولى. ولكن كل هذه الروائع والإبداعات سواء كانت مكتوبة بالريشة أو بالقلم، تنبض كلها من قلب واحد، وتستقي من معين واحد، وتضيء من قبس واحد، وتولد من حلم واحد، وتنزل إلى أرض الواقع من روح واحدة هي روح فيكتور هوغو الفنية والإنسانية التي ترنو أبدا إلى تفسير دهشة الإنسان أمام الوجود الملغز والكون الملهم عبر حساسيات مختلفة فتخرج الأسئلة والحيرة والدهشة مرة لوحة ورسما ومرة رواية أو قصيدة أو نحتا، ومرة تتلعثم المشاعر والحروف والكلمات وتبقى معلقة فوق عروش الروح مثل بعض الأحلام الجميلة التي لا تكتمل.

وفي السياق نفسه، يوضح أودينيت هذه الحساسية والتقاطعات والرؤية "منذ عام 1952، كانت هناك معارض مخصصة لرسومات فيكتور هوغو، في كل ذكرى عظيمة لميلاده أو وفاته، وفي كثير من الأحيان وبشكل أكثر انتظاما، في منزل فيكتور هوغو. لكن من الصحيح أن رسومات فيكتور هوغو ما تزال أقل شهرة من كتبه. لكن التقاطعات بين كتاباته ورسوماته عديدة، حتى لو كان من الصعب إدراكها. لا تدعي رسوماته أنها تعطي صورة لنص دقيق كما يفعل الرسام. إنه بالأحرى عمل من صندوق مشترك من المشاعر الجمالية والوجودية، يعمل فيكتور هوغو عن طريق الكتابة أو الرسم أو كليهما في الوقت نفسه لتوضيح الصورة الذهنية والرنين. قوة شاعرية تشبه الحلم. ومن خلال الرسم يستكشف فيكتور هوغو رؤيته للعالم والإنسانية، باحثا عن قوتهما الخفية، قوة الأحلام والرؤية".

وعن السبب الذي جعل فيكتور هوغو لم يرغب في نشر هذه اللوحات وتقديمها خارج إطار عائلته وأقربائه، أوضح أودينيت للجزيرة نت أن الأمر والسبب يبقى غامضا بعض الشيء لأن فيكتور هوغو لم يرغب قبل كل شيء في الظهور كفنان ورسام محترف حتى لا يكون هناك خلط بين الأنواع.

وأضاف "فيكتور هوغو أراد قبل كل شيء أن يكون كاتبا. لكنه كان ما يزال فخورا بتصميماته ويمكنه التحدث عنها بطريقة (احترافية). وقد وافق أيضا على نشر بعض رسوماته عن طريق الطباعة، لكن هذا ظل مخصصا لدوائر صغيرة إلى حد ما. وفي وصيته، حرص أيضا على توريث الرسوم التي بقيت له، مثل مخطوطاته، إلى مكتبة فرنسا الوطنية. وهذا مهم جدا ويعني أنه أراد أن يتم الاحتفاظ بها مع مخطوطاته، في مكتبة وليس في متحف (مثل أعمال الرسام). ربما تكون هذه طريقة للقول إن رسوماته هي معمل لعمله مثلها مثل مخطوطاته وخاصة الأجزاء والرسومات المكتوبة التي تمنى أن يراها محفوظة ونشرها بعد وفاته".

البانثيون تسترجع جنازة هوغو

أما المعرض الثاني الذي يقام في مقبرة العظماء "البانثيون" (Panthéon) ويستمر حتى 26 سبتمبر/أيلول المقبل، فجاء تحت عنوان "الحرية في البانثيون"، فيروي جنازته التي شارك جمع اعتبر أحد أكبر الحشود في العاصمة الفرنسية على الإطلاق. وقد أقيم في السرداب بالقرب من ضريحه، ويسترجع بالصور واللوحات وسواها جنازة هوغو وكواليسها. وقد شكل تشييع الكاتب حينها حدثا وطنيا، إذ شارك فيه حشد بشري قدر حجمه بنحو مليوني شخص.

حشود كبيرة في جنازة فيكتور هوغو
صور تظهر حشودا كبيرة في جنازة فيكتور هوغو (الجزيرة)

ويضم المعرض مجموعة من لوحات فيكتور هوغو إلى جانب صور كثيرة من جنازته وتفاعل الصحف والدوريات والمنظمات مع حدث وفاة هذا الكاتب العبقري والمناضل الملتزم بالحقوق والحريات. وتبرز الصور المعروضة تدافع الناس من مختلف الطبقات ومحاولتهم الظفر بمكان وموقع مميز من الجنازة لإلقاء النظرة الأخيرة عن قرب على مناصر الطبقات المهمشة والفقراء.

ومما يبرز هذا الشغف الكبير بحضور جنازة فيكتور هوغو، هو هذا الإعلان المبوب الذي شكل إحدى المعروضات اللافتة والطريفة في معرض البانثيون، وقد جاء في هذا الإعلان المنشور في الصحافة الفرنسية آنذاك، "جنازة فيكتور هوغو.. للإيجار 60 مكانا في الطبقة الأولى في جادة سان جيرمان".

وقد تواصل الوله بهذا المبدع الفذ، بل زاد أكثر، من خلال التدافع الكبير الذي يشهده معرضه المقام في البانثيون. وقد حاولت الجزيرة نت فهم سر هذا الحب وهذا التدافع من خلال بعض الزوار حيث قال جورموني "هذا المعرض فرصة جيدة للتعرف على التفاصيل الصغيرة في حياة فيكتور هوغو والتعرف على مساره الإبداعي ونضالاته الكثيرة خلال القرن التاسع عشر. وكذلك الاقتراب أكثر من خلفيات وإبداعات وخصوصيات وكتابات ورسومات فيكتور هوغو خاصة لمن هو مولع به مثلي وقرأ كل روائعه من "نوتردام دي باري" إلى "البؤساء".

وأضاف جورموني "من خلال نماذج الصحف المعروضة لتلك الفترة نستطيع أن ندخل عوالم الحياة الثقافية لتلك المرحلة وخلفيات الكتابات النقدية ورأيها في كتابات فيكتور هوغو قبل أن يصبح مشهورا. وأعتقد أن لهذا المعرض قيمة رمزية كبيرة قبل أن تكون له قيمة تأريخية، لأنه يعطينا ويعطي أجيال اليوم فكرة كبيرة عن القيم النبيلة والهادفة التي كان يدافع عنها فيكتور هوغو في عصره صحبة مجايليه من المبدعين والفنانين والسياسيين والكتاب الملتزمين، والتي نفتقد الكثير منها اليوم للأسف الشديد".

أما الزائر جون بول الذي كان صحبة عائلته فقال للجزيرة نت "أعتقد أن القيمة الحقيقية لهذا المعرض تكمن في كونه يحاول تذكيرنا بالقيم الإنسانية العظيمة التي آمن بها ودافع عنها فيكتور هوغو. وهذه القيم والمبادئ النبيلة التي ناضل من أجلها نفتقدها اليوم عند المبدعين وعند أغلب الناس. ما نعيد اكتشافه عبر هذا المعرض وهذه الرسوم والصور التي تؤرخ لجنازته، هو أن هذا المناضل الملتزم مثقف حقيقي ومبدع متميز وإنساني إلى أبعد الحدود، وقد دافع عن حقوق الإنسان وعن الحرية والطبقات المهمشة، دافع عن كل ذلك رغم التضييقات ورغم الظلم الذي تعرض له ورغم المنفى الذي دفع إليه دفعا".

المصدر : الجزيرة