سيرة قارئ في كتاب "نزهة الغراب" للصحفي والروائي السوري خليل صويلح

يجمع خليل صويلح -في كتابه "نزهة غراب"- بين أسلوب السيرة الذاتية الشخصية والأخرى المرتبطة بالسيرة الذهنية، ويجعلها تتماهى مع ذاته أولا، قبل أن يستشكل ملامحها الجمالية ومدى تأثيرها في خصوصية النص الأدبي لدى أديب معين.

الكاتب خليل صويلح المولود في مدينة الحسكة السورية عام 1959 بدأ حياته شاعرا قبل التحول للكتابة الروائية والسردية (مواقع التواصل الاجتماعي)

"هذه ليست رواية وإنما سيرة قارئ"؛ هكذا أجابني الصديق الروائي والصحافي السوري خليل صويلح بعد أن خيل إلي أن عمله "رواية" في لحظة المعاينة السريعة لغلاف كتابه الأخير "نزهة الغراب"(2021)، لحظة الإعلان عن صدوره قبل أشهر ضمن منشورات "دار نينوى".

وهي رسالة رغم أنها مقتضبة، لكنها غنية، فهي تضمر في طياتها زخما نقديا وفكريا، بحيث اندهشت من وقعها على جسدي، وهي تشغل تفكيري في ذلك المساء القريب، واستمرت تطرق مسامعي من حين لآخر، لأنها أربكتني على مستوى طبيعتها الأجناسية وجعلتني أفكر بالمناخ الطوبوغرافي لجغرافيات النقد الأدبي العالمي، كما تبلورت ملامحه وسماته داخل الثقافة الفرنسية المعاصرة، بحيث إن القارئ يجد صعوبات جمة في طبيعة هذه الكتابات التي تتأرجح بين الفكر والنقد.

فهي بقدر ما كانت عبارة عن نصوص متمنعة صغيرة كتبها بعض المفكرين لمعارض فنية ومقدمات لأعمال روائية؛ كانت تؤكد على قوة النقد والمنزلة التي أضحى يتنزلها في فكر هؤلاء المفكرين الفرنسيين. كما مثلت تلك الكتابات عن خصوصية النقد الأدبي الجديد، مثلما نلمحه عند تودوروف وبارت على سبيل المثال لا الحصر.

إنها كتابة تأبى أن تقوقع نفسها داخل النقد، بل تتطلع إلى دخول حقل الفكر، حيث الكتابة تنصهر داخل خطاب نقدي تمتزج فيه المعرفة الإنسانية والاجتماعية ويقودان معا شكل الكتابة الجديد، بغية تفكيك العمل الأدبي وما ينضح به من خرق وجماليات.

كتابة مخاتلة

غير أن خليل صويلح في كتابه هذا لا يدعي أن كتابه فكري، بل هو مجرد "سيرة قارئ"، وهذا التواضع المعرفي في تجنيس كتابه يضمر في طياته أبعادا رمزية، بحيث نجد أن الكتابة لا تمنح شرعيتها من وجودها، وإنما من الآخر الذي يسكنها ومن التجارب الأدبية العربية الرفيعة التي تشغل بقلق عاشق هذه الكتابة وتنحت مفاهيمها وجمالياتها داخل جغرافيات الأدب.

كتاب "نزهة الغراب" لخليل صويلح صدر عن دار نينوى للنشر (الجزيرة)

لكن صويلح -وهو يعرف كتابه بسيرة قارئ- يكون ضمنيا قد أخضع طريقة الرؤية إلى مفهوم السيرة، إلا أنه سرعان ما يندهش القارئ من كون إيقاع الكتابة وموسيقاها لا يتبعان نمط الكتابة النقدي الذي نقرؤه عادة داخل كتب النقد، لأنه مشغول بسيرة الذهنية لحيوات الناس وانكساراتهم على أعتاب الكتابة والحياة.

وهو حين يستعرض بعناية جرح الآخر يتوغل جسده في أحيان كثيرة للتعبير عن سيرته ووجعه هو هذه المرة لا الآخر، وذلك في علاقته بالكِتاب والكُتّاب والأدباء الذين عادة ما تنطوي أعمالهم على مأساة تراجيدية لا تختلف عن المنطقة التي ينتمي إليها الكاتب فيزيقيا، فالملامح السورية واضحة والتعبير عن القلق الوجودي للذات والحياة اليومية ومزالقها تبدو واضحة المعالم والبنيان، لكنه يعمل على تطويع هذا الألم الساخر تخييليا من جسده إلى الآخر ومن الآخر إلى جسده، وهو ما يؤثر على مفهوم الكتابة لديه ويجعلها لا تخضع إلى قوانين الأدب والنقد، إنها كتابة مخاتلة مفتوحة على طوبوغرافيا الألم والجرح البشري، انطلاقا من تجارب أدبية بعينها.

ملامح التجديد

هكذا تبدت لي -وأنا أقرأ الكتاب- معالم فكر رولان بارت وجيل دولوز وجاك دريدا وغيرهم من المفكرين الفرنسيين الذين فتحوا قارة مجهولة داخل الفكر المعاصر باهتماماتهم الفلسفية البالغة، باليومي والعابر والزائر والمهمش واللامفكر فيه والمنسي في أجسادنا داخل مسارب نائية، ظلت منفلتة من سلطة التفكير داخل الفلسفة العقلانية الحديثة؛ لكن هذه الفلسفة المعاصرة لا تحضر بشكل فج وظاهر داخل خطاب الكتاب، لأن أساسه ليس فلسفيا وإنما أدبيا، يعمل من خلاله خليل صويلح على قراءة المتن الثقافي العربي شعرا ورواية ونقدا.

وفي هذه القراءة المائلة والمشرحة لسوسيولوجيا الخطاب الثقافي لتجربة أدبية ما؛ يتسلل خليل صويلح خلسة إلى ذاته، ويمرر جملة من الرسائل والأحاسيس والأفكار والمواقف الشخصية، ويجعلها تتماهى مع التجربة التي يكتب عنها. وهذه الطريقة في صياغة الآخر -بوصفها انعكاسا عن ذواتنا- هي ما أدت إلى شكل كتابة مترنحة لا تقيم في حدود معينة ولا تستكين لذائقتها الأدبية، وإنما تتطلع إلى الحفر في مكبوث العمل الأدبي، باعتباره كيانا تتواشج فيه الأفكار والمواقف.

سيرة ذهنية

غير أن ما ظل يتبادر إلى ذهني في عبارة "سيرة قارئ" هو تذكر رواية "أوراق" للمؤرخ المغربي عبد الله العروي، التي عمل فيها على كتابة سيرة الأفكار لشخصية بطلها "إدريس"، وهو ما جعل الرواية تختلف تدريجيا وتنزح عن الفهم المتداول داخل رواية مغربية متعطشة أكثر لـ"السيرة الذاتية" مقارنة بـ"السيرة الذهنية".

لكن حالة "نزهة الغراب" مختلفة؛ لأنها لا تنتمي إلى جنس الرواية، وهو ما يجعل القارئ يتوه في الفهم، فهو غير متعود على هذا النوع من العناوين المربكة في طرائق تشكلها والمتنصلة من البيداغوجيا الأكاديمية التقريرية الفقهية التي لا تعمل سوى على اجترار الأشياء، دون تمحيصها ودون أن تتيح له إمكانية التفكير في تجدد الموضوعات والأساليب الفنية والقوالب الجمالية التي تحكم النص النقدي، وهو ما يجعل بعضها يسقط في عملية تدوير وتكرار، لما قيل وتم البحث والتفكير فيه.

غير أن خليل صويلح -في كتابه هذا- يجمع بين أسلوب السيرة الذاتية الشخصية والأخرى المرتبطة بالسيرة الذهنية، ويجعلها تتماهى مع ذاته أولا، قبل أن يستشكل ملامحها الجمالية ومدى تأثيرها في خصوصية النص الأدبي لدى أديب معين.

فالانتقال بين أنواع السير الأدبية طريقة مذهلة لدى خليل صويلح في كتابة تاريخ جسد الآخر وفهم منطلقاته ومآزقه وتصدعاته، فهو لا يجعل من الأحداث والسياقات تتحكم في عملية صياغة الكتابة النقدية، وإنما يستحضرها فقط كنوع من المعاينة الإجرائية التي تؤطر العمل الأدبي داخل تاريخه وجيله وملامحه، لكن ليس بالاستناد على هذه العوامل البرانية، بل إلى الحكم الذاتي المؤسس على معايير فنية وجمالية.

إن تغريب الذات وجعلها تذوب أدبيا في جسد الآخر أهم ما يميز كتاب خليل صويلح من الناحية الشكلية، بحكم أن الكتابة النقدية لديه تبدأ من داخل جسد الآخر وليس من خارجه، أي أن السياقات الأدبية والتاريخية والثقافية الخارجية ليست مهمة في إضاءة معالم العمل الأدبي لدى الكاتب، وكل هذا فقط من أجل التحرر من قهر النظرية وسلطة الكتابة الأكاديمية الجافة، وهو ما جعل خليل صويلح من الأسماء الأدبية العربية القليلة التي تعمل داخل كتاباتها على خلخلة المألوف، سواء داخل أعمال روائية أو من حيث الكتب الثقافية التي يقوم بمراجعتها أو التجارب الشعرية والروائية والفكرية التي يعمل على تشريحها نقدا.

المصدر : الجزيرة