الشاعر العماني زاهر الغافري وحوار عن الشعر والرواية

الشاعر والأديب العماني زاهر الغافري يعمل حاليا على سيرة روائية تحت عنوان "الخروج من الفردوس" (مواقع التواصل)

لا شك أن سيرة الشاعر العماني زاهر الغافري حافلة بالكثيرة من المسرات والاكتشافات المذهلة أمام تنوع الأمكنة، التي كتب فيها نصوصه الشعرية، مما يجعل القارئ يشعر بنوع من الصدمة الجمالية تجاه المكان؛ فهو في شعره متعدد، لكنه لا يضمر في باطنه، سوى التعدد والارتحال المعرفي، الذي يسم تجربة الشاعر في علاقته بالعالم.

قصائد صغيرة ومتوسطة وأخرى طويلة، يحلو لزاهر الغافري الاحتفاء من خلالها بالواقع وترويض حكايات السفر ومتاريس لغة المنفى.

بهذه الطريقة الوجودية المتمنعة، التي يعيش بها الشاعر في ذاته، قبل بدء فعل الكتابة، يعمل زاهر على تفجير تاريخ الجسد وهو يذوب في تفاصيل اليوم والاحتفاء بالعابر والزائل والمنسي.

وللعين مكانة خاصة في تجربة زاهر الغافري الشعرية، فهي من تلتقط التفاصيل الصغيرة وتحولها بسرعة من كونها أحداثا ووقائع إلى صور شعرية فنية تسكن العقل وتصبو إلى الإقامة في سراديب الجسد وأدغاله الموحشة بالشروخ والتصدعات والخيبات.

صدر له العديد من الأعمال الشعري نذكر منها "أظلاف بيضاء"، "الصمت يأتي للاعتراف"، "أزهار في بئر"، "في كل أرض بئر تحلم بالحديقة"، "حياة واحدة، سلالم كثيرة"، وترجمت بعض أعماله إلى الإسبانية والإنجليزية والألمانية والسويدية والفارسية والهندية والصينية.

وبمناسبة صدور مجموعته الشعرية الجديدة "صناع الأعالي" (2021) عن دار حطوط بالأردن، كان للجزيرة نت هذا الحوار مع الشاعر.

غلاف مجموعة زاهر الغافري الشعرية "صناع الأعالي" صدرت 2021 عن دار حطوط بالأردن (الجزيرة)
  • زاهر الغافري، عشت حياتك متنقلا بين العراق والمغرب وباريس ولندن والسويد، لكنك تعود دوما إلى قرية سرور بسلطنة عمان، ما السر في هذه العودة الوجودية؟

نعم هذا صحيح، ابتدأت هذه الارتحالات في فترة مبكرة من حياتي، منذ الستينيات وحتى الوقت الراهن، فأنا رجل ملول ولا أحب الاستقرار في مكان واحد. شغفي هو التنقل الدائم والسفر في العالم، ربما ورثت هذا الأمر من أبي فهو كان أيضا دائم التنقل خصوصا في شبابه.

بدأت الرحلة إلى بغداد أولا من أجل التعليم الحديث، ومن ثم حياة العيش طولا وعرضا بما في ذلك القراءات وارتياد صالات المسارح وقاعات السينما وحضور الغاليريهات التشكيلية، والكتابة، واستمرت هذه الفترة حتى العام 1977، بعدها انتقلت إلى باريس ثم مونبلييه ثم المغرب تحديدا في الرباط حيث أكملت دراسة الفلسفة في جامعة محمد الخامس، بعدها عشت في طنجة لمدة 5 سنوات.

لقد كنت وما زلت مسحورا بالعالم، بالأمكنة والمدن كأنما هناك قوة خفية تسحبني أو تسحب خطواتي إلى مطارح تمدني بالطاقة. على أية حال، كل الدول التي ذكرتها في سؤالك، كانت امتدادا للرحلة الأولى وفي كل دولة أو مدينة كنت أتعلم وأتذوق أشياء جديدة. ففي نيويورك وحدها عشت ما يقارب 10 سنوات وكنت أتنقل أيضا في ولايات أخرى عديدة في الولايات المتحدة.

أما لماذا العودة إلى قرية سرور في عمان فلأنها كانت المنطلق أو المبتدأ الذي أوصل خطواتي إلى آفاق أخرى، ثم لأن سرور مرتبطة معي بالطفولة والصبا والحياة البسيطة، مرتبطة بالنخيل والينابيع والجبال والشعر هو النبع الأصيل، الأول للطفولة.

  • أقمت في المغرب سنوات طويلة جدا وكنت شاهدا على أهم المخاضات العسيرة، التي مرت منها الحداثة الأدبية منذ سبعينيات القرن المنصرم، ما الذي تحتفظ به ذاكرتك الثقافية والأدبية من صورة مغرب اليوم؟

أقمت بالمغرب 10 سنوات وكانت من أجمل سنوات حياتي وكان المغرب حينها يعيش أزهى سنوات اليسار، أما الحداثة الأدبية فكانت تتجلى في أعمال روائية وشعرية وقصصية لكن أيضا في التشكيل والسينما والمسرح، ففي أعمال إدريس الخوري ومحمد زفزاف ومحمد شكري مثلا، تجد نصوصا تتجلى مع الحداثة العربية، وفي الشعر أعمال محمد بنيس ومحمد بن طلحة وعبد الله راجع وآخرين، وفي التشكيل محمد القاسمي وفؤاد بلامين وفريد بلكاهية، وفي السينما والمسرح تجد أسماء مثل محمد الركاب والبوعنيني والطيب صديقي وآخرين.

ما أريد أن أقوله أن الحداثة الأدبية في المغرب في ذلك الوقت كانت تنهض بقوة، مع ملاحظة أن الثقافي كان في أغلب الأحيان مرتهن بالجانب السياسي والحزبي.

غير أن الدرس النقدي في المغرب كان قويا بحكم موقع المغرب جغرافيا مع آخر التموجات التي كانت تظهر في فرنسا على جميع الأصعدة، ومن ناحية أخرى كان الكتاب والشعراء الذين كتبوا بالفرنسية يقدمون زخما جديدا للحداثة الأدبية بشكل عام، الجيل الذي أتى بعد ذلك قدم وما زال يقدم تجربة طرية ومدهشة في الشعر وفي القص، سأذكر مثالا: عبد الرحيم الخصار وعلية الإدريسي في الشعر وأنيس الرافعي في القصة.

ديوان "غيوم فوق جسر أبريل" للشاعر العماني الذي أثرى المكتبة العربية بأكثر من 10 دواوين (الجزيرة)
  • القارئ لأعمالك لا يلبث أن يكتشف حجم المرارة المطبوعة بنفس ساخر، لكنها في الآن نفسه، تنزع نحو الفرح ولذة العيش والتنقل والترحال، كيف تستطيع أن تعيش هذه المفارقة في جسدك بين الألم والتمزق والفرح، قبل الشروع في تفجير مكنوناتها شعرا؟

الشعر يعبر عن الحالات كلها، والمرارة التي تتحدث عنها ربما نابعة من الحزن مما يجري في العالم العربي والعالم. شخصيا أميل إلى الفرح، أما الألم فهو أمر خاص دائما يأتي من مصادر متعددة من المنافي أو من رحيل وغياب الأحباء والأصدقاء، الألم جزء أصيل في حياة الكائن والشعر الذي لا يذهب إلى جذور الألم في ظني يظل سطحيا. انظر مثلا إلى الراقصة الطليعية ومنظرة الرقص إيزادورا دانكان كأن جسدها وحركاتها تنوس بين أقاليم اللذة والألم والموسيقى وخبرة الطبيعة.

  • يغلب على قصائدك النفس الشعري القصير الذي يجعلها أشبه بقصص شعرية، هل تعتقد أن هذه الطريقة، قد تكون فعالة في القبض عن المنسي واللامفكر فيه من لحظات العيش الهاربة باستمرار؟

لا أبدا، فقصائدي على العموم متوسطة الطول بل لدي مطولات مثل قصيدة "عزلة تفيض عن الليل" وقصيدة "هذيان نابليون"، أما القصائد القصيرة فهي مكثفة قد تأخذ حيزا في صفحة كاملة، وإذا كنت تقصد باستثمار السرد في الكتابة الشعرية فنعم، لأن قصيدة النثر تستفيد من حقول تعبيرية متعددة بما في ذلك السرد واللون والمونتاج السينمائي.

  • من المعروف عند زاهر الغافري هو قدرته على الاستمتاع بالحياة بكامل فرحها وتراجيديتها وأيضا ملذاتها وما يرتبط بها من تشكيل وسينما وموسيقى ورقص، كيف تستطيع أن تبلور هذا الرأسمال الرمزي لحظة كتابة القصيدة؟

الموضوع ليس بالاستثمار الرمزي كل ما في الأمر أنه يتعلق بفن العيش فأنا بطبيعتي لا أستطيع أن أعيش في الزيف والخداع لا مع ذاتي ولا مع الآخرين، والتراجيديا ليست في النهاية سوى هذه الحياة التي نعيشها بكامل عنفوانها ثم أن علاقتي بالسينما والموسيقى قديمة.

فمنذ الصبا كان لدي أخ موسيقي ويعزف على أكثر من آلة وكنا نرتاد قاعات ونوادي السينما، وبما أن الرقص والفرح جزء من الحياة فأعيش حياتي على سجيتها، ينبغي ألا تنسى أن نيتشه كان أحد الراقصين الكبار في الفلسفة وصاحب كتاب العلم المرح إنه ديونيسيوسي بامتياز (نسبة إلى إله الخمر عند الإغريق القدماء وملهم طقوس الابتهاج والنشوة).

  • القصيدة لديك بمثابة مختبر للحياة اليومية، وهي دائما حسية ومرتبطة أكثر بجسد الشاعر، خلافا للتجارب الشعرية العربية الأخرى، التي تحاول التماهي مع الموروث العربي أو قضية أو سياق، فتكون القصيدة مفتعلة ومنسوب الشعر فيها منخفض على حساب النثر، كيف تنظر إلى هذا الأمر؟

قصيدتي نعم، ذات طابع حسي، لأنني لا أحاول أن أعيش في التجريد مع أنني أحب التجريديين الكبار في الفن، كما عند موندريان وكاندنسكي وصديقتي الفنانة التجريدية سامية حلبي المقيمة في نيويورك. على القصيدة أن ترتطم بإيقاعات الكون وأغلبها إيقاعات حسية من الأفلاك حتى وقع قطرات المطر على الأشجار والأرصفة، وسبق أن قلت إن قصيدة النثر تختلف تماما عن الشعر التقليدي أو الكلاسيكي، فهي لا تمتلك صوتا متعاليا على الموجودات بل تعيش مع الموجودات بصوتها هي الخاص بها.

ديوان "في كل أرض بئر تحلم بالحديقة" لزاهر الغافري يضم قصائد مختلفة بعضها قصير (الجزيرة)
  • لماذا لم تستهوك الرواية، خاصة أن نصوصك الشعرية تمتلك وعيا فنيا كبيرا بخصوصيات السرد والحكي والوصف، وهي عناصر قد تفيد الشاعر على توسيع أرض اشتغاله وحرثها عن طريق أجناس أدبية أخرى، علما أن الرواية بدأت تكتسح المجال الأدبي المعاصر، جعلت الكثير من الشعراء ينزحون صوب كتابة الرواية؟

لا أعرف، استهواني الشعر منذ البداية لكن مع ذلك أستطيع أن أقول إنني قارئ نهم للرواية أعني الروايات التي ظهرت منذ منتصف القرن الـ19 سواء كانت في روسيا أو في فرنسا وحتى هذا اليوم، وأنا أقيم في السويد، لا يمر يوم واحد دون أن أقرأ عملا روائيا. الرواية تحتاج إلى بناء معمار متكامل دون نسيان التفاصيل، والرواية بهذا المعنى إبداع وصناعة واعية ومدروسة.

كتبت سابقا بعض الأعمال القصصية وأعمل الآن على أول عمل سردي طويل وهو سيرة روائية تحت عنوان "الخروج من الفردوس" وهذه السيرة تتناول تجربة حياتي منذ كنت في الثالثة من عمري حتى الآن أتمنى أن يصدر في العام القادم.

المصدر : الجزيرة