نوعان من الفرانكفونية في المغرب وتونس.. الجزيرة نت تستطلع آراء مثقفين عن الكتابة على تخوم الفرنسية

رغم الجرح الاستعماري الذي يؤسس علاقة الثقافة المغاربية بالفرانكفونية فإنها غدت اليوم بمثابة عنصر مؤسس ومهم لهذه الثقافة. ويتحدث مثقفون للجزيرة نت عن تأثيرها الراهن.

الباحثة التونسية بلالي والكاتب المغربي ركاطة ومواطنه العروي والروائي بن جلون (الجزيرة-مواقع التواصل)

منذ سبعينيات القرن المنصرم، لم تستطع البلدان المغاربية ولا مؤسساتها الثقافية والفنية، حسم النقاش حول راهن الفرانكفونية داخل البلاد المغاربية، وما إذا كانت هذه الأخيرة ماتزال تشكل خيارا تنمويا وثقافيا، يجعل من الثقافة المغاربية تنفتح أكثر على مختلف الإنتاجات الفرانكفونية، سيما داخل المجال الأدبي الذي كان ومايزال أكثر المجالات التي تأثرت بالمد الفرانكفوني منذ ستينيات القرن المنصرم.

ورغم الجرح الخفي -الذي يؤسس علاقة الثقافة المغاربية بالفرانكفونية والمتمثل بالاستعمار- فإنها غدت اليوم بمثابة عنصر مؤسس ومهم لثقافة لا يستطيع أحد أن ينزع عنها مكانة باتت تنزلها داخل هذه الثقافة. خاصة بعد تجديد بالأدب المغاربي منذ بدايات تأسيس وتوغل الفرانكفونية إبان خمسينيات القرن العشرين، مما فرض نظرة مغايرة على طبيعة العمل الأدبي وضرورة تحرره من تقليديته من خلال مجابهة سلطة الاستعمار وتفكيك ميثولوجياته وآلياته بالسيطرة والإخضاع، سيما خلال السبعينيات، حيث برزت أقلام فرانكفونية كثيرة في الأدب المغاربي واجهت الاستعمار بطرقها المنهجية وعوالمها الخيالية، لكنها تجارب أدبية تعد على أصابع اليد الواحدة.

رصد الاستعمار

وهنا يجدر التمييز بين الفرانكفونية كخيار فني، ينزاح إليه الكاتب للتعبير عن قلقه وهواجسه وشعوره للوصول إلى قارئ أكبر، بسبب تنشئة ثقافية خارج البلاد العربية فرضت عليه الكتابة بالفرنسية، والدخول أكثر في ثقافتها ومنظومتها الفكرية، مع حرصه على توجيه النقد لهذه الثقافة وتنميطاتها الكولونيالية، فجاءت كتابة هؤلاء المفكرين والأدباء أشبه بنقد مزدوج ينطلق من لغة الآخر لتفكيك أساطيره، لكنه يوجه نفس النقد إلى ثقافته المغاربية والعربية ككل.

غير أن الملاحظ في كتاباتهم أنها اتسمت بنوع من العمق، خاصة في مجال الأدب والفكر، بحيث تتيح للمرء الإقامة، في تخوم الثقافة الفرنسية وآدابها وعلومها وتاريخها، نوعا من العمق الفكري على مستوى المنهج والأداة في النظر لخصوصيات الثقافة المغاربية وفهم مداخلها المستعصية وتقاطعاتها الأدبية والفكرية مع الثقافة الفرانكفونية، بحسب نقاد أدبيين.

على هذا الأساس، ظلت دعوة المؤرخ المغربي عبد الله العروي قائمة منذ سبعينيات القرن الماضي على مستوى القطع مع التراث والدخول بشكل عميق في صلب الحداثة بكل تمظهراتها وفروعها، ثم العودة مجددا إلى التراث العربي.

وهذه العودة هي ما مكن العروي من اجتراح مشروع فكري وأدبي، يستند إلى مقومات الحداثة الأوروبية ومناهجها الحديثة والمعاصرة، من أجل إضاءة الخفي والمنسي داخل التراث العربي برؤية حداثية وأكثر واقعية بعيدة عن الأحلام الطوباوية في تشريح بعض قضايا الاجتماع السياسي العربي.

أما الفئة الثانية فهي تتملك الفرانكفونية بوصفها سياسية، لا تعمل فقط على تقديم نفسها كثقافة مغايرة، تريد تكوين مساحة أكبر لنفسها داخل ثقافة الآخر من أجل صنع وشائج عميقة مع واقع الثقافة المغاربية، بقدر ما عملت على تذويب الهوية العربية وإحلال الهوة بين هذه الثقافة، وما رافقها من عداء تاريخي للغة العربية في اعتبارها لغة "إشكالية" أو لغة "المقدس" كما ذهب إلى ذلك في أكثر من مرة الكاتب الفرانكفوني المغربي الطاهر بن جلون.

الفرنسية ثقافة أم سياسة؟

ونتيجة لهذا التضارب والتباين في تمثل الفرانكفونية بين فتنة الثقافي وحساسية السياسي، تشهد الساحة المغاربية، بشكل يكاد يكون يوميا، جدلا كبيرا وواسعا في صفوف المثقفين العرب بين فئة تدعم الفرانكفونية كثقافة ومكون لغوي داخل المنطقة المغاربية ساهمت في تحرير الأدب المغاربي وجعلته أكثر تحررا على مستوى الموضوعات.

مقابل فئة أخرى، تنتقد العربية وتدافع عن الفرانكفونية كسياسية "حداثية" وإن كانت تروم في مضامينها إلى ضرب الهوية وفرض نوع من الاستلاب اللغوي والتنميطات الفكرية التي لا تخرج عن كونها أحد أشكال الاستعمار الثقافي، سواء داخل التعليم أو الثقافة أو مجال المعاملات اليومية داخل مؤسسات ثقافية وفنية.

ترى الباحثة التونسية يسرى بلالي في حديثها الخاص للجزيرة نت أن الفرانكفونية أو "المدرسة" الفرنسية هي "متوغلة أكثر داخل تونس، بحكم الاستعمار الفرنسي، بعد أن كانت العديد من مناهج التدريس بالفرنسية، رغم أن العلوم الإنسانية أضحت تدرس بالعربية".

وتستدرك "مع ذلك فإني أرى أن لها كل السلبيات والايجابيات. على المستوى السلبي، ثمة استعمار ثقافي داخل المدارس والجامعات الأكثر ارتباطا بالمنهج الفرنسي، بحكم القطيعة الكبرى بين العربية والفرنسية، خاصة في مجال الطب والهندسة والمسرح والسينما والفنون الجميلة".

كل هذه المجالات في نظر بلالي "يغلب عليها الطابع الفرنسي، سواء من ناحية التدريس أو من جانب الأشخاص الذين يدرسون أو يمتهنون هذه المجالات، التي تغلب فيها الفرنسية على العربية أو حتى على اللهجة المحكية".

وتضيف أن هذا الأمر "يؤثر سلبا على خصوصيات المجتمع، بحيث أصبحت المشاريع والدراسات الكبرى تقدم بالفرنسية خاصة داخل المجلات التي تحتكر بشكل كبير الفرنسية على حساب الإنجليزية، التي لم تدخل وتكتسح بعد المجتمع التونسي على مستوى التعامل على صعيد المؤسسات وغيرها. وهذا الأمر ساهم في إبراز مثقفين تونسيين فرانكفونيين".

وتعتبر الباحثة أن من إيجابيات هذه اللغة أنها تتمثل "على مستوى الترجمة ظهور فئة ترجم من العربية إلى الفرنسية، مما يفيد كتابتنا ودراستنا وتحرر قضايانا وإيصالها إلى شريحة أكبر من المجتمعات الأخرى غير العربية".

والحقيقة أن هذا لا ينطبق فقط على تونس، بل إن المغرب كذلك أضحى منذ الألفية الجديدة يراهن على هذا النمط العصري على مستوى البيداغوجي (التربوي) وما يرتبط بذلك من تدريس وتلقين للدروس والمحاضرات وأنظمة الفصول وطرق الامتحانات. وهي أشياء لا تؤكد حقيقة إلا ظلال الاستعمار الثقافي الذي ما يزال مسيطرا على تفكير النخب المغربية.

خاصة وأن هذه الثقافة الفرانكفونية استفحلت داخل الأوساط الثقافية المغربية، وغدت بمثابة موضة ثقافة يعمد إليها عدد من المثقفين لصنع تميز مصطنع عن أقرانهم، حتى لو كانوا يكتبون بالعربية.

وقد تبدو للملاحظ أن هذه الظاهرة عادية وتستجيب لطبيعة التطورات، التي شهدتها المنظومة الثقافية العربية السنوات الأخيرة على مستوى الاختلاف اللغوي، إلا أنها تبقى بالغة الأثر على مستوى التأثير في خصوصية مفهوم الهوية.

"اللغة تحكم العالم"

أما الكاتب المغربي حميد ركاطة، فيقول للجزيرة نت إنه لا يمكننا إنكار إسهامات الفرانكفونية في الانفتاح على الأدب الفرنسي والتعريف بالآداب العالمية. وذلك راجع بسبب هيمنة لغتها التي نشرت في العديد من المستعمرات التابعة "فمن يمتلك اللغة يحكم العالم".

وهذا ما قام به المحتل الفرنسي في نظر ركاطة الذي "فطن إلي أهمية صناعة أنتلجنسيا (نخبة مثقفة) محلية، تكتب بلغته وتفكر بها، بل تسود من خلال التمكن منها باعتبارها تابعا أمينا له، ومخلصا مطيعا يعمل على الحفاظ على مصالحه في رقعة جغرافيا واسعة من العالم. وكان التعليم هو السبيل الأمثل لنشر اللغة التي كرست نوعا من التفوق والرقي الاجتماعي".

ويضيف ركاطة "هكذا ظهر بالعالم العربي كتاب تشبعوا بالثقافة والفكر الغربيين، وكرسوا الفرنسية وسيلة للتحرر والتقدم وكتبوا عن بلدانهم بلغة (المحتل) غير أنهم ظلوا حبيسي تلك اللغة، وتقاليدها وعاداتها، وحتى فوزهم ببعض الجوائز، لم يكرس لهم مكانة بارزة مثل الكتاب الفرنسيين مثلا، بل ظلوا في أعينهم مجرد مغتربين، وأجانب، وظلت إسهاماتهم محصورة في دائرة تلق محدود من القراء ببلدانهم الأصلية.

كل هذا في وقت كانت فيه "الصناعة الثقافية تعتمد أساسا على النشر الورقي ، ولم تكن فيه تكنولوجيا الإعلام والتواصل قد عرفت طفرتها الحالية التي حولت العالم لقرية صغيرة".

الكاتب المغربي حميد ركاطة
الكاتب المغربي ركاطة: لا يمكننا إنكار إسهامات الفرانكفونية في الانفتاح على الأدب العالمي (مواقع التواصل)

تراجع

وخلافا للباحثة التونسية، يرى ركاطة أن "بداية التراجع ستظهر مع تطور الترجمة من الفرنسية إلى اللغات الأصلية، والذي أفقد الفرنسية موقعها المهيمن، وهو أمر سيتزامن كذلك مع ظهور فئة جديدة من الكتاب، خصوصا بعد ذيوع النشر الإلكتروني، ناهيك عن تغير اختيارات الكتاب أنفسهم بكتابتهم بلغة أخرى غير لغتهم الأصلية (الفرنسية) مثلا. لأسباب تعود لطبيعة أسلوبها وتراكيبها اللغوية. ولصعوبة امتلاك ناصيتها، راحوا يبحثون عن لغة بسيطة للتواصل، ومواضيع تذكرهم بكتابات روادهم في عمقها وجدواها بعيدا عن كل غموض ".

يتابع ركاطة "وقد شكلت النداءات التي أطلقت بعد استقلال بعض الدول من الهيمنة الفرنسية كدولة استعمارية، وبداية تأسيس الدولة الوطنية المرتكزة على هوية محلية وثوابت ومرجعيات مستمدة من تاريخها العريق، ومحاولة إعادة الاعتبار للغة الأم (العربية) في التعليم، والإدارة والتكوين والإبداع، محاولة للتخلص من عقدة التفوق الغربي، باعتماد لغة باستطاعتها نقل قضايا الواقع، وإبراز طبيعة الموروث الثقافي المحلي، بحثا عن تصالح مع الذات المستلبة".

هكذا ظلت إسهامات الفرانكفونية في نظر الناقد ركاطة "محصورة ومحدودة التأثير ضمن فئة قليلة لا تزال حتى اليوم تدافع باستماتة عن مشروعها الفكري بدعم من الغرب. بعدما عملت على تكريسه لسنوات كمشروع فكري مبتكر، ومتطور داخل الحياة الثقافية ببلدانها الأصلية. أمر كهذا سيخفت بريقه مع انتشار التعريب في مختلف مناحي الحياة الثقافية والإدارية. وبالتالي تراجع الأدب الفرانكفوني الذي هيمن طويلا على المشهد الأدبي في المنطقة المغاربية".

المصدر : الجزيرة