الأديب الليبي محمد الأصفر للجزيرة نت: الطغاة لا يسمعون الموسيقى وهذا ما تعلمته من البيئة الألمانية

يصف الروائي محمد الأصفر الثورة الليبية بأنها ثورة حقيقية أطاحت بدكتاتور استهان بقدرات شعبه، واعتبر الأصفر العالم قرية صغيرة من أنغام وأوتار موسيقية

الكاتب الليبي محمد الأصفر
الكاتب الليبي محمد الأصفر تحدث للجزيرة نت من ألمانيا عن الأدب والثورة والسياسة (الجزيرة)

تشبه حياة الكاتب الليبي محمد الأصفر حياة الرحالة العرب القدامى أمثال ابن بطوطة وابن جبير الأندلسي وأحمد بن فضلان والمسعودي وياقوت الحموي، فهو لا يكاد يستقر في مكان حتى ينتقل إلى آخر، ولا يكاد ينيخ جماله ويحط رحاله في قارة حتى ينتقل إلى أخرى "على قلق كأن الريح تحته" تدمن روحه القلقة السفر والترحال، حيث نتعرف معه على صخب الأمكنة ونسافر في معراج عجيب غريب من بنغازي إلى درنة وطبرق وطرابلس وبرلين وتشاد ومرسى مطروح وبكين ومصر وإسطنبول ومصراتة وتونس والمغرب.

ولاحقا، سينعكس هذا التنوع المكاني الجميل والثري إيجابا في أعمال الأصفر الإبداعية التي ترشح حنينا وتضج بأصوات عجيبة لذاكرة الأمكنة.

وفضلا عن هذا القلق الوجودي والترحال المكاني، ترتكز معظم أعمال محمد الأصفر الروائية على الموسيقى الليبية والعربية والعالمية، حيث يمتزج ويتواشج جنبا إلى جنب الغناء الشعبي الليبي والمرسكاوي مع بيتهوفن وموزارت وأم كلثوم وعدة أنماط موسيقية أخرى، وينم هذا الوله الخاص والحضور القوي للموسيقى في متن الأصفر الإبداعي عن تلقائية واعية وقصدية إبداعية للعزف المنفرد على وتر الموسيقى باعتبارها لغة كونية عابرة للقلوب وموحدة للإنسانية.

لذلك كله، لا غرو أن تنبني روايته "بوق" الصادرة حديثا عن دار مسكلياني للنشر على روح الفن وأصوات الموسيقى المتعددة، وذلك من خلال حكاية الجندي الألماني كارل عازف البوق في الفرقة العسكرية الألمانية إبان الحرب العالمية الثانية الذي يتشظى لنصفين بعد هروبه من المعركة وسقوطه عند البئر، ونتعرف على نصفه الثاني عازف المزمار الليبي داود وشخصيات كثيرة أخرى تمثل كلها وجوها مختلفة لهذا التشظي الروائي والانتقال الزمكاني وهذه الروح الموسيقية الخصبة التي تتجاوز كل الصراعات والحروب والحواجز اللغوية، إذ تقول راعية ليبية لكارل الألماني "أغنامي وعنزاتي سعيدات بعزفك، وضروعهن بعد سماع الموسيقى تكاد تتفجر من وفرة الحليب".

وللتعرف أكثر على تفاصيل هذه الحكاية الموسيقية المشوقة لروايته الجديدة "بوق"، وفي خصائص المتن الإبداعي للكاتب الليبي محمد الأصفر، وموقفه وشعوره وتقييمه للثورة الليبية وهي تحيي عيدها العاشر كان لنا هذا اللقاء الخاص مع صاحب الإصدارات والروايات الكثيرة مثل "علبة السعادة" و"جامايكا" و"سرة الكون" و"ملح" و"تمر وقعمول" و"حجر الزهر"، فإلى الحوار..

ثورة حقيقية أطاحت بالدكتاتور

بداية نسأل ضيفنا عن شعوره وإحساسه والشعب الليبي يحيي الذكرى العاشرة للثورة الليبية، خاصة أنه شارك فيها وتعرض للمضايقات بسببها، فيقول "ما زلت أراها ثورة حقيقية أطاحت بدكتاتور سولت له نفسه أن يستهزئ بالشعب ويكيل له الإهانات اليومية ويعبث بمشاعره وبمقدساته ويبدد ثروته في حروب عبثية، وينصب له المشانق في المدارس والجامعات والميادين الرياضية، ويلاحق الليبيين المعارضين في الخارج ويغتالهم أو يختطفهم أو يشتريهم عبر عمليات استخبارية".

غلاف رواية بوق محمد الاصفر
رواية "بوق" تمثل حكاية موسيقية مشوقة كتبها الأديب الليبي متأثرا بتجربته الموسيقية (الجزيرة)

ويضيف مقيّما السنوات العشر الأولى من عمر الثورة "كان الليبيون يأملون من ثورة فبراير التي انطلقت من بنغازي أن تحقق لهم الخير والرفاهية، وأن تحول بلادهم إلى دولة ديمقراطية حضارية تساهم في رقي العالم وتقدمه في زمن قصير، ولكن للأسف دب الخلاف سريعا بين الرفاق واشتعلت الفتنة، وبعد أن كانوا في شهور الثورة الأولى في الميادين قلبا واحدا صاروا بعد سقوط الدكتاتور واستلامهم السلطة ومقدرات البلاد في محاور القتال قلوبا شتى، بل وصل الأمر بينهم إلى الاستقواء بالأجنبي وجلب المرتزقة، ورغم كل هذه الفتن والسلبيات التي لوثت الثورة وانحرفت بها عن مسارها ما زلت مؤمنا بها وبمستقبلها المشرق".

وفي هذا الصدد، يشدد على صعوبة المرحلة قائلا "حسب ما أرى لا أحد سيحتفل بالثورة اليوم، الناس تضرروا كثيرا في لقمة عيشهم وأبسط متطلبات الحياة، ربما سيحتفل بها اللصوص والأفاقون وأثرياء الحرب وسماسرة العملة والمستخلصات والاعتمادات المصرفية والذين نهبوا البلاد والعباد طولا وعرضا وكونوا ثروات بدون وجه حق والتحقوا بفئة المرموقين الذين يظنون أنهم بنفوذهم ونقودهم وسلاحهم فوق القانون".

ويتابع "الناس العاديون ضحوا بأرواحهم وقاموا بثورة لتكون ليبيا دولة حضارية ديمقراطية فسرقت منهم الثورة بعد نجاحها مباشرة ليجدوا أن بلادهم قد احتلت من المرتزقة والعصابات والمجرمين الذين استنزفوا مقدرات الشعب المالية، فيما عامة الناس وأصحاب البلاد فقدوا رواتبهم وسبل عيشهم وصاروا يعيشون على الكفاف، بل تحت الحضيض لا ماء ولا كهرباء ولا غاز ولا سيولة في المصرف، ولا دواء، يفترسهم الفقر ويفتك بهم كورونا رغم أن بلادهم بحيرة من نفط وغاز، كل يوم يصدّر ليدخل ريعه إلى جيوب الآخرين الذين ليس هم الشعب الليبي بالطبع".

وعن تفاعل المبدعين والمثقفين مع الثورة، وهل خلقت هذه الثورة أصواتها الإبداعية وموجاتها الأدبية بعد هذه العشرية وحاولت تأريخ الأحداث والوقائع فنيا، يقول الأصفر "نعم في العشر سنوات الماضية ظهرت أصوات إبداعية ليبية متميزة، لكنها للأسف لم تستطع أن تعبر بحرية عن إبداعها بسبب الوضع الأمني السيئ الذي تعيشه ليبيا، قبل الثورة كان في ليبيا خط أحمر واحد هو القذافي وعائلته، ولكن اليوم ليبيا كلها خطوط حمراء، لأن السلاح في يد الجميع".

الموسيقى ذاكرة المكان والإنسان والكتابة

وبعد حديث الثورة نحاول أن ندخل مع الأصفر ونكتشف تفاصيل روايته الجديدة "بوق" التي تحضر فيها بقوة روح الفن بوصفها روحا موحدة للإنسانية، وصوت الموسيقى المتجاوزة لكل الصراعات والحروب والحواجز اللغوية والحضارية والثقافية والعقبات الأيديولوجية، ونسأله عن إمكانية توحيد هذه الروح الموسيقية الصافية للشعوب المتناحرة المتقاتلة وعيشها جنبا إلى جنب بأمان ورقي، فيؤكد قائلا "بالطبع الموسيقى لغة عالمية ليس للإنسان فقط إنما للحيوان أيضا، ولو يحكم العالم موسيقي فسيحل السلام بشكل أو بآخر، ولن يتحارب البشر إنما سيغنون ويرقصون ويبتسمون".

نحن مثلا كعرب وأمازيغ وأكراد توحدنا أغنية لفيروز أو لناس الغيوان، أغنية ذات زمن قصير تؤثر في نفوسنا وتجعل مزاجنا جيدا، سر نجاح الموسيقى في التأثير الفوري لأنها تخاطب الوجدان، والوجدان يجعل العقل متزنا ويساعده على أخذ قرارات صائبة ومفيدة، الطغاة والمجرمون لا يسمعون الموسيقى بوجدانهم إنما بآذانهم فقط، حيث يدخل النغم من الأذن اليمنى ويخرج سريعا هاربا من الأذن اليسرى، لأنه هو نفسه يخاف من القتل والسجن والتعذيب".

ويستشهد على صحة وجهة نظره ببعض أحداث الرواية من خلال قوله "في الرواية يوجد مشهد معبر عن ذلك، فمدينة طبرق الليبية بها عدة مقابر لجنود الحلفاء والمحور، بالإضافة إلى مقابر المسلمين، وعندما يجمع الجندي عازف البوق أشلاء وجثث رفاقه الألمان الذين ماتوا في الحرب العالمية الثانية ويقيم لهم مقبرة جماعية بمساعدة جمعية ألمانية تعتني بالأسرى والقتلى والمفقودين تشكلت في برلين بعد نهاية الحرب وأتت إلى طبرق وكل الأمكنة التي دارت فيها معارك في شمال أفريقيا بـ10 سنوات تقريبا يترك في المقبرة حيزا لجندي آخر، رفيقهم ما زال حيا يرزق وسيأتيهم حتما في يوم من الأيام، وبعد أن يعزف على البوق يسمع رفاقه القتلى عزفه فينهضون وكذلك يسمعون أصوات أقدام عسكرية قادمة ناحيتهم من المقابر المعادية لهم التي بها فرنسيون وإنجليز وأستراليون وهنود ونيوزيلنديون وغيرهم يتبعون للحلفاء فيتأهب الموتى الألمان للقتال من جديد، لكن أولئك الجنود كانوا قادمين لسماع موسيقى بتهوفن الإنسانية، باختصار الموسيقى حولتهم من جنود حرب إلى جنود سلام، فعندما يصلون إلى المقبرة الألمانية يقدمون تحية ويعودون إلى مقابرهم من جديد، كل قتيل يدخل قبره منتشيا سعيدا".

الموسيقى في الرواية

وعن الحضور اللافت القوي للموسيقى في متنه الإبداعي، والسر في ارتكاز معظم أعماله الروائية على الموسيقى الليبية والعربية والعالمية، يجيب الأصفر قائلا "لقد عشت في حي المحيشي ببنغازي، وهو حي شعبي يهتم بالموسيقى والغناء، معظم الفنانين الشعبيين والعازفين المعروفين من هذا الحي، حي يسكنه خليط من كل سكان وقبائل ليبيا، وهذا الأمر جعل الغناء والموسيقى الشعبية متنوعة، وكل الكلمات المغناة مفهومة، ودائما هناك حفلات غناء مرسكاوي في النادي أو في المناسبات، خاصة الأعراس، لذلك بطريقة أو بأخرى لا بد أن يترسخ في ذهني فن الموسيقى والغناء، الناس في هذا الحي يدندنون أكثر مما يتكلمون". 

وفي نفس السياق، يضيف "عندما قرأت كتابا عن بتهوفن يحكي قصة حياته ورأيت صورته على غلاف الكتاب بشعره المتماوج ونظرته المتأملة أعجبت بشخصيته، وبالصدفة كانت مدينة بون في ألمانيا التي بها بيت بتهوفن وتمثاله هي أول مدينة أوروبية أزورها عام 1979، وهناك وجدت تمثال بتهوفن وبيته ومعلومات كثيرة عنه وعن موسيقاه، وبقيت مترسخة في ذاكرتي أستحضرها وتستحضرني حينما أكتب".

الكاتب الليبي محمد الأصفر
الكاتب الليبي محمد الأصفر شدد على دور الموسيقى في النص الإبداعي (الجزيرة)

ويخلص في النهاية إلى أن الموسيقى بالنسبة له هي الذاكرة، لأنه يمكنه أن ينسى شخصا أو حدثا مهما لكن لا يمكنه نسيان لحن سمعه وأعجبه.

ويشدد قائلا "أحيانا أتوقف عن الكتابة مدة طويلة وكأن وقود الموسيقى الذي في داخلي قد نفد، لكن لا أستسلم لذلك، أذهب عبر خيالي إلى مراكش أو باتايا أو بكين أو مرسى مطروح أو درنة أو إلى أي مكان عشت فيه أياما حزينة أو سعيدة، ومن هناك ألتقط لحنا أو أغنية قد تذهب بسردي إلى غير الوجهة التي توقف فيها، ولكن هذا لا يهم لأن دروب الموسيقى وطريقها دائما صحيحة أنى اتجهت".

وليبرر وجهة نظره هذه يتحدث عن قصة فوز المطرب بوب ديلان بجائزة نوبل للآداب عام 2016 فيقول إن "معظم الأدباء احتجوا على ذلك، اتهموا لجنة جائزة نوبل بالجهل وسوء التدبير، فكيف يتركون فطاحل الروائيين والشعراء العرب والعالميين ويمنحونها لمطرب وملحن ومؤلف أغنيات كلماتها عادية، وبالنسبة لي أعتبرهم على خطأ، فالأغنية نص أدبي أيضا، والموسيقى نص أدبي عميق، ربما يكون لأولئك المنتقدين ضيق أفق من خلال اختزالهم الأدب في الحروف الأبجدية، وهذا الأمر باعتقادي غير صحيح، فالنص الأدبي قد يكتب بنظرة أو ابتسامة أو حتى دمعة، فما بالك وقد كتبه المطرب بحروف ولحنه بنغم وغناه بحنجرة وتفاعل معه الملايين من الكائنات البشرية وغيرها".

السفر ومعراج الأمكنة العجيب

وفي النهاية، نسأل الأصفر عن سبب سرعة انتقال السرد والأحداث والشخصيات في رواياته من مكان إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى ومن قارة إلى أخرى في عملية أشبه بالمعراج العجيب، فيجيب قائلا "في الكتابة العالم قرية صغيرة من أنغام وأوتار وموسيقى، كل المدن والقرى التي في كتاباتي عشت فيها من قبل فعليا أو خياليا عبر القراءة عنها والتأثر بما حدث فيها".

ويضيف "أبدأ الرواية بحدث في بنغازي، ثم ينقلني الحدث إلى أماكن أخرى، الأماكن الأخرى لدي فيها ذكريات، وكل الذكريات تناديني فأرحب بها، وأجد لها دورا ما في روايتي، لا أجعلها ضيفا ثقيلا، بل أجعل لها تفاعلا عميقا لتكون من نسيج العمل الأصلي".

وفي نفس السياق، يقول "أنا لا أبحث عن أفكار كي أكتب، أبحث عن أمكنة، ومن خلال الأمكنة أعبر عن مشاعري ومشاعر تلك الأمكنة الشبيهة بمشاعري، وغالبا ما تنضم إلي في البحث عن أمكنة أخرى عاشت فيها هي ولها فيها ذكريات تحب أن تشركني معها فيها، وبالطبع أنقاد لها، وفي النهاية تسألني: عمَ تبحث؟ فأقول لها: أنا لا أبحث، أنا أعيش فقط، فتقول لي: إذًا كن مكانا".

وعن منفاه الألماني الاختياري الذي يعيش فيه الآن، ومدى تأثيره على كتاباته فنيا، يقول صاحب رواية "تمر وقعمول" "حقيقة لم أشعر أنه منفى، هو مجرد مكان عشت فيه صغيرا وعدت إليه بعد 35 سنة، مدينة بون بالنسبة لي مثل بنغازي، ونهر الراين مثل نهر الليثو "نهر النسيان الأسطوري" الموجود قرب حينا في بنغازي، وبالطبع تأثرت بالأجواء الألمانية وكتبت رواية "تمر وقعمول" ثم "علبة السعادة" وأخيرا "بوق"، والروايات الثلاث تتحدث عن ألمانيا وليبيا، البيئة الألمانية علمتني الانضباط أكثر والدقة، خاصة في الكتابة، وعلمتني أيضا قيمة الوقت، وكيفية استغلاله".

المصدر : الجزيرة