ديوان "مشاهد يتلوها البدوي".. الاغتراب ورحلة البحث عن المعنى في عالمنا المعاصر

إلى جانب مشاهد الحرب واللجوء والوحدة والقمع والاغتراب التي يتلوها البدوي في ديوان الشاعر الشاب حسين الضاهر، ثمة مشاهد للحب وانكساره وبرده ودفئه وزيفه وصدقه في زمن هشاشة العلاقات الإنسانية وضعف الروابط التي ينسجها الإنسان على وسائط الاتصال المعاصرة.

الشاعر السوري الشاب حسين الضاهر أصدر أخيرا ديوان "مشاهد يتلوها البدوي" (مواقع التواصل)

إلى الدنيا..

لم أكتب لأحرك الدهشة في حقل وجدانك..

ولا لأسند جرة الكون بحرف..

ولم تكن كلماتي رصاصة تثقب صدر الطاغية..

ببساطة، أكتب لأصنع كدمات في وجه الفراغ

على وقع هذه العبارات ينفتح ديوان "مشاهد يتلوها البدوي" للشاعر السوري الشاب حسين الضاهر؛ ليضع القارئ منذ البداية أمام مقصدية نصوصه الشعرية، فهو يكتب ليصنع "كدمات في وجه الفراغ".

فراغ سيبقى حاضرا كمفردة وفكرة أساسية لقصائده أو مشاهده الـ29 التي تروي كثيرا عن معنى أو "لامعنى" ما يقاسيه المرء بعد خوضه تجربة الحرب واللجوء والاغتراب والوحدة، لتسقط إثرها كل المعاني، ويبقى الحب وطيف امرأة معدّة للبوح والمناجاة والعتاب ملاذا أخيرا.

يمتد الديوان، الصادر حديثا عن دار موزاييك للدراسات والنشر في إسطنبول، إلى 89 صفحة من القطع المتوسط يتناول فيها الشاعر جوانب من المأساة السورية وأثرها في ذاته عبر قصائد/مشاهد نجح بها في التعبير عن جيل كامل من الشباب السوري الذي هاجر وهجّر إلى بلدان العالم هربا من بلاد دهمتها الحرب منذ سنوات طوال ولم تزل.

في حضرة اللجوء والفراغ

في قصيدته الأولى يتلو علينا البدوي مشهد لجوئه إلى البلاد التي لم تمنحه سوى "بذاءة لسانها" وقيد الوحدة، وتتوالى بعد ذلك مشاهد اللجوء في ثنايا قصائده ككاميرا لغوية تصور بالصور الشعرية حياة تعب صاحبها من الترحال، وبلغ به النفور من الأمكنة حدا شيّع معه المدن داعيا أنثاه لحمل رفاتها:

صباح الخير

أما زلت على قيد اللجوء مثلي؟

إذن، لو تحملين معي رفات بعض المدن

لقد تعبت

وفي ظلال هذا النفور من أمكنة اللجوء ينمو عشب الاغتراب في مشاهد الضاهر لتتجدد الدوال من مفردات واستعارات، وتبقى الدلالة واحدة تعشش في الجانب الخفي من جسد القصيدة، ولا تفتضح إلا مع اقترابنا من نهاية المشهد الأخير:

كيف سأقول للبائع المتجول أن صوته يخيف اليمامة المعششة تحت إبط نافذتي؟

كيف سأقول لهذا النهر الشارد يكفيك هراء، لا تدّع أنك الفرات؟

كيف أقول للشرطي المنتصب عند حاجز الجسر الشهير

أنا ابن الجنوب؟

اغتراب مكاني لا يلبث أن يتحول إلى اغتراب نفسي يستحيل معه الفراغ الذي كان يؤرّق البدوي في أول المشاهد إلى امتلاء يستغرق كل وقته مع المشهد الأخير:

الآن لم أعد أشعر بالوحدة ولا وقت لدي لفعل أي شيء آخر

فالفراغ يملأ علي وقتي ووحدتي

هكذا تعرّي مشاهد حسين الضاهر أوجه الاغتراب في عالمنا المعاصر، الاغتراب الذي يصفه المفكر البولندي سيغموند باومان بالنعمة والنقمة في آن واحد، فالنعمة هنا أن يبصر الشاعر (والمغترب عموما) ويدرك كل ما يبدو عصيا على الإدراك لدى المحليين المستقرين، والنقمة أن يعيش واقع ذلك الاغتراب الذي لا ينمو إلا بالاقتيات على المعنى والقيمة والتوازن.

يقول الضاهر للجزيرة نت "كان الاغتراب وما زال محراثا يقلب أرضية وجداني، فمنه بدأت وإليه سأنتهي".

أما عن اللجوء، فيقول"إنه فصل آخر من فصول الكارثة؛ يختلف وقعه من نفس إلى أخرى لكنه في النهاية فراق يشبه الموت إلى حد ما".

واللجوء -كما جاء في الديوان- "بيوت لا تمنح أجسادها إلا للخائفين".

المشهد.. ليكون الشعر أكثر مباشرة وحيادية

على الرغم من توليف الضاهر لأسلوب هو مزيج من السرد المتسارع والوصف الاستعاري وما يعطيانه للقارئ من انطباع بماضوية الأحداث على صعيد الزمن، فإن ركونه إلى المشهد ليكون شكلا للقصيدة أسهم إلى حد كبير في إحداث الأثر الأدبي وإيهام القارئ بآنية الحدث، لا سيما في القصائد ذات الطبيعة السردية، ليعزز ذلك من مقدرة القارئ على التفاعل مع القصيدة:

لم تكن الأرجوحة في بيتك العتيق

سوى تمرين مبكر على الطيران

الآن

أنت الحجر العالق

في قعر حذاء الحياة

يضايق مشيتها

فترميك

ولم تكن هذه الخدعة الزمنية هي الجمالية الوحيدة الذي منحها شكل القصيدة للقصيدة، فالمشهد في "مشاهد يتلوها البدوي" كان خير وسيلة احتوى من خلالها الشاعر صراع الأضداد الذي شهده النص (الحب والحرب)، (السعادة والحزن)، (الأمل والوهم)، (الوطن والغربة)؛ فغدت وظيفة المشهد هنا كوظيفته في المسرح أو الدراما التلفزيونية وهي المقابلة بين الشخوص، التي تضطلع بدورها في هذا الديوان تلك الأضداد المتصارعة.

سأغني لكم

عن بيوتنا الواطئة كالأمل

وعن أوهامنا العالية كالقصر

اليوم

في قنّي المطل على الكارثة

أرقد على بيض القلق

بانتظار أن يفقس مصائب صفراء لطيفة

وأخيرا فالمشهد خيار نابع من تجربة الشاعر الذاتية، فيقول للجزيرة نت "كوني لست عنصرا مؤثرا في المجتمع أو البيئة التي رميت فيها، أجد نفسي دائما في موقع المشاهد البعيد كل البعد عن صناعة المشهد، لذلك أحاول نقل ما يمكن نقله عن طريق لقطات كما حدثت من دون أن أحدث تغييرا في مسارها".

الحب والمرأة .. ملاذ أخير وقد لا يكون!

إلى جانب مشاهد الحرب واللجوء والوحدة والقمع والاغتراب التي يتلوها البدوي ثمة مشاهد للحب وانكساره وبرده ودفئه وزيفه وصدقه في زمن هشاشة العلاقات الإنسانية وضعف الروابط التي ينسجها الإنسان على وسائط الاتصال المعاصرة، ففي جانب منه يبدو الديوان كرحلة بحث عن معنى حقيقي داخل لوحة زيف مشوهة ينطوي الحب في إحدى تشوهاتها كأمل أخير وملاذ.

فتاة افتراضية

ترسل صوتها الخزفي بتسجيل مغلف بأوراق الصحف

وصورالمفقودين

تقول: أحبك

فتغرق الغرفة بشبر موسيقا

أقول: أحبك

فتنبت سكين أخرى في ظهر المسافة

هكذا يقتل الملل في عصر "الميديا" والحروب النظيفة

هكذا ينبت الحب البلاستيكي

والورد البلاستيكي

والوجوه الواجمة

بهذه الكلمات يحاول الضاهر مكاشفة الحب على بعد مسافة أرض عبر تقنيات الاتصال الحديثة، فيراه مجديا أحيانا وبلاستيكيا في أحيان أخرى، ولكن ما هو مؤكد أن وجود الأنثى كان مجديا كباعث للرغبة في الكتابة، للرغبة في مقاومة الفراغ والسكون.

يقول حسين "للأنثى حيز شاسع في نفس كل شاعر، وقد تصبح قضيته الوحيدة حين تفتقد القضايا. لقد كان حضور الأنثى في (مشاهد يتلوها البدوي) حضورا كثيفا وفوضويا بحكم التجربة المعيشة وقتئذ".

الضرورة الشعرية

يخشى العديد من الشعراء العرب اليوم على شعرية قصائدهم من مفردات العالم الرقمي، إلا أن الضاهر وجد في ذلك التوظيف ضرورة لا بد منها:

أتسلل إلى صورك

حين تبتلع "الحوتة"

قمر الماسنجر الأخضر بجانب اسمك

أنصت إلى حكايا فستانك

المسكون بالخرافات

وإلى جانب هذه القصيدة هناك العديد من القصائد التي لجأ فيها الضاهر إلى توظيف مفردات هذا العالم، وعن ذلك يقول "في المدة الأخيرة شكلت وسائل التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص والعالم الرقمي بوجه عام واقعا موازيا لواقعنا الحقيقي، وقد نقضي في هذا الواقع الافتراضي أوقاتا أكثر مما نقضي في حياتنا اليومية مع أناس واقعيين، وعلى الأرجح أن تأثير الواقع الموازي لم يقتصر على الأدب وطرق نشره، بل دخل إلى العمق ليحفر في جذع الأصناف الأدبية، ليحضر ضمن القصيدة والرواية والقصة، أما في رأيي فأعدّه حاجة شعرية".

والجدير بالذكر أن للشاعر حسين الضاهر ديوانا سابقا صدر عن دار موزاييك للدراسات والنشر أيضا، هو "مياه.. صالحة للقتل".

المصدر : الجزيرة