حدث في الذاكرة.. الروائية اللبنانية نجوى بركات وحمى القراءة ورائحة الورق والحرب وعزاءات باريس

الروائية اللبنانية نجوى بركات
الروائية اللبنانية نجوى بركات (الجزيرة)

في هذه الزاوية تفتح الجزيرة نت مساحة لكاتبات وكتاب لكي يتحدثوا عن الحدث أو الحادث الذي غيّر حياتهم، وجعل منهم شعراء أو روائيين أو قصاصا أو مسرحيين أو مترجمين أو حتى ناشرين، بخلاف توقعات الأهل أو الأصدقاء.

وفي الوقت ذاته، تعتبر هذه الزاوية نافذة للقارئ والمتابع، لكي يتعرف على جزء حميمي -وربما كان سريا- لمبدعين مختلفين في طرق وأساليب التفكير والحياة والكتابة.

ضيفتنا اليوم الكاتبة نجوى بركات التي ولدت في بيروت عام 1966، وهي روائية وصحفية ومترجمة لبنانية ومؤسسة "محترف كيف تكتب رواية". وبعد حيازتها دبلوم دراسات عليا في المسرح، ثم في السينما (جامعة السوربون في باريس)، عملت صحفية حرة في عدد من الصحف والمجلات العربية، كما أعدت وقدمت برامج ثقافية في إذاعات دولية، كإذاعة فرنسا الدولية والإذاعة البريطانية، إلى جانب إنجازها عددا من السيناريوهات الروائية والوثائقية، وأعدت أول 15 حلقة من برنامج "موعد في المهجر"، الذي عرضته قناة الجزيرة.

وفي عام 1985، وهي في 19 من عمرها، هاجرت إلى باريس بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان.

وفي عام 1986 صدرت الرواية الأولى لبركات بعنوان "المحول"، وأتبعتها برواية "حياة وآلام حمد ابن سلامة" في عام 1989.

وفي عام 1996 نالت نجوى بركات جائزة المنتدى الثقافي في باريس عن روايتها الثالثة "باص الأوادم". ثم صدرت بعدها في عام 1999 روايتها الرابعة "يا سلام".

وأدرجت روايتها الخامسة "لغة السر" -التي صدرت عام 2004- على قائمة جائزة "فيمينا" الفرنسية للأدب المترجم، ووصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الأدب العربي في فرنسا، وبعد 15 عاما صدرت روايتها الأخيرة "مستر نون" عن دار الآداب، التي أصدرت معظم أعمالها.

وكتبت نجوى بركات رواية واحدة باللغة الفرنسية (La locataire du Pot de fer)، وقامت بترجمة "مفكرة كامو" في 3 أجزاء، صدرت عن دار الآداب ومشروع كلمة.

غلاف كتاب باص الأوادم لنجوى بركات
رواية "باص الأوادم" حازت جائزة أفضل إبداع أدبي من المنتدى الثقافي اللبناني عام 1997 (الجزيرة)

تتنقل الكاتبة نجوى بركات حاليا بين بيروت وباريس، ولها عمود أسبوعي في صحيفة لاكروا الفرنسية، وهنا شهادتها عن الأسئلة التي طرحتها عليها الجزيرة نت.

زاوية بين كنبتين

منذ سني دراستي الأولى، كنت حرفيا مسحورة بالكتب التي كنت أجدها في مكتبة المدرسة، فأستعيرها لألتهمها سرا. والآن، أتساءل متى وأين كنت أجد ذلك الوقت الهائل لقراءة هذا الكم من الكتب، وأنا لم أكن أملك غرفة خاصة بي تعزلني عن ضجيج الحياة العائلية؟

بلى، كانت هناك زاوية بين كنبتين، في الصالون الذي كانت أمي تمنعنا من ارتياده؛ كونه مخصصا للزوار، أختفي فيها لأحلم. والقراءة كانت جزءا من تلك الأحلام، بل إنها كانت مطيتها ومادتها الأولى وعصيرها السحري الذي كنت أتناوله بتقشف، بتلذذ، لكي لا أستنفده بسرعة، فيبقى أطول وقت ممكن، قبل أن ينساب صوت أمي من تحت الباب متفقدا وآمرا بالعودة بسرعة إلى المعسكر.

جاذبية الأدب وغموضه

كانت "هدأة" القراءة، على عكس صخب البيت والشارع والمدرسة، فضائي الذي أتمدد فيه وأطير وأجول وأغامر ولا أخاف، على عكس كل شيء آخر، وقد وجدت في الأدب جاذبية وغموضا وارتياحا وسعة لا توفرها لي أي من الأنشطة المتاحة الأخرى.

بلى، هناك أيضا تلك القصص والحكايات التي كانت ترويها أمي لأخي الصغير كي يغفو، فأتلقفها أنا من دون أن تدري، وأقولبها على مقاسي: الأمير يصبح أميرة، والفارس فارسة، والبنت صبيا. باختصار، كانت كل البطولات متاحة أمامي. كل المزايا والأوصاف تصبح حكرا علي، وكل قصص الحب من صنيعي.

وحده الكلام المتخيل، المخالف للمألوف والعادي، المشع برشاقة جمله، كان يثير انتباهي، الكلام المغاير، الجديد، المتسع والمجنح، الذي كان يبقيني عائمة في صداه، بين اليقظة والحلم، الحقيقة والمجاز. كيف كان لطفلة أن تتعلق بالكتب إلى حد كانت تتمنى فيه العيش فيها أبدا، تضيع ولا يجدها أحد بعد ذاك؟

غلاف كتاب لغة السر لنجوى بركات
رواية "لغة السر" صدرت بالفرنسية عن دار "سندباد" الفرنسية (الجزيرة)

رائحة الورق والحرب الأهلية

كانت هناك أيضا روايات أبي عن الجان واللقيات المرصودة التي تحرسها العفاريت في المغارات البعيدة، فلا تفك رصدها إلا أمام أنقياء القلوب الذين -لنقاوة قلوبهم- ينتهون إلى هدر الكنوز وتبديدها لجهلهم التام بطبيعة ما وجدوه. يحمل أبي معدات البحث عن الكنز في كيس من "الجنفيص" (الخيش)، فأصغر وأصغر حتى أنزلق في ذلك الجراب، فيحملني معه في مغامراته في الثلج والوديان وفي الكهوف التي يسكنها ابن آوى، والأعشاش حيث تضع الثعابين بيضها. لا يجد أبي الكنز، وأكبر أنا كي أدرك أن كنزي الخاص هو روائح الورق العتيق الرطب، والأحرف السوداء، وتلك الأسطر التي تدخل في رأسي وتخرج من الدماغ شرائط سوداء.

كنت أحب العيش "هناك"، ولم أكن أدري كيف أسميه أو أعرف عنه. ثم جاءت المراهقة أكثر قسوة من شجون الطفولة، إذ دفعتني الحرب الأهلية إلى مزيد من التملص والانكفاء. القذائف تسقط والكهرباء تنقطع وأنا على ضوء الشموع أواصل طريقي. الصفحات تتحول أمامي جسورا وأقمارا وإلى وديان. أنسى أني أنا، أين أنا، وحين أعود إلى الواقع، أتمنى لو يبتلعني أي كتاب فلا أخرج منه إلا بعد انقضاء العتمة والسواد.

عراء هائل في باريس

لكنني خرجت إلى باريس. الحرب التي انتظرت انتهاءها سنوات لم تنته، وكنت أشعر بأنني ماضية إلى مزيد من التخلي والضمور والانسحاب. لم تكن هجرتي إلى باريس سهلة، ولا إقامتي فيها؛ برد وعزلة وقلق وخوف. الحرب استمرت وقد أضيف إليها صقيع الثلج، والوحدة، وعراء هائل لم أتمكن من احتوائه أبدا، بل إنه راح يتسع حتى شعرت بأنه فم كوني سيلتهمني، وأنني أضمحل تماما داخله، من دون صوت أو أثر.

هكذا حين أجّرت مسكنا بعد بحث مضن خلال 4 أشهر، وجدتني جالسة إلى طاولة، والجدار في مواجهتي، وأنا في مواجهة الجدار. أمسكتْ يدي قلم الرصاص وجرتْ على الورقة البيضاء، تلقائيا، عفويا، دون خطة أو قرار، وبقيتْ على هذه الحال حتى انتهيت.

غلاف كتاب مستر نون - نجوى بركات
رواية "مستر نون" تتناول أزمة بيروت وعذابات بشرها (الجزيرة)

لا أقول بهذا إنني لم أكن قد كتبت شيئا من قبل، لكن الكتابة كانت آنذاك تمرينا، شيئا من التباهي واللعب، من رعونة المراهقة ووقاحتها. لا، ربما هي البراءة الحائرة بذاتها آنذاك، نصوص قصيرة نشرت في جرائد هنا وهناك، إعادة اعتبار وارتباك وحياء ومفاخرة في آن، سحر الاسم منشورا في جريدة في نهاية نص مطبوع.

جمرة خبيثة في الأحشاء

وفي باريس، جاءتني الكتابة ضيفا يدخل عنوة، من دون ميعاد، كمن يصاب بالحمى. بقيت "أهذي" نحو شهر بأيامه ولياليه. نبع انفجر داخلي ولم أتمكن من إيقاف دفقه. أخرج إلى السوق القريب أشتري الفراولة بكميات، وأضيف إليها القشدة الطازجة والسكر الناعم. لا آكل غير هذا. من الصباح إلى المساء. أطفئ النور كي أنام، فتفاجئني فكرة، فأعود وأشعله لأدونها قبل أن تطير. نعم، أتتني الكتابة كما تجيء حمى، لا حدث سبّبها ولا قرار. هي "لوثة"، تصاب بها ولا يخلصك منها أي دواء. عليك الاحتماء منها ومن سعيرها ونارها التي، وإن خبتْ، وإن تعلمت التحكم بها؛ تبقى متقدة كجمرة خبيثة في الأحشاء.

المصدر : الجزيرة