لعنة الشعر وخيانة الترجمة.. "المالينشة" ومختارات من شعر أميركا اللاتينية

لعنة المالينشه
غلاف الكتاب يحمل صورة للفنانة المكسيكية فريدا كاهلو، التي ارتبطت صورتها بصورة المالينشة، للتأثير الذي أحدثته كلتاهما على الثقافة المكسيكية (الجزيرة)

هل تحلّ اللعنة على الشعر أو على الترجمة أو على كليهما معا؟ في مقدمة المختارات الشعرية التي جمعتها ونقلتها من الإسبانية للعربية، الكاتبة والمترجمة الأردنية الفلسطينية المقيمة في نيكاراغوا، غدير أبو سنينة، توضّح كيف للترجمة أن تكون لعنة.. لعنة تبني جسورا بين الثقافات.

بعنوان "المالينشة" صدرت ترجمة مختارات لشعراء من أميركا اللاتينية عن دار خطوط بالأردن، في حين كانت لوحة الغلاف بتصميم الكاتب والفنان الأردني محمد العامري، تحمل صورة للفنانة المكسيكية فريدا كاهلو، التي ارتبطت صورتها بصورة المالينشة، للتأثير الذي أحدثته كلتاهما على الثقافة المكسيكية.

وقد شرحت غدير في مقدمة المختارات أن سبب اختيار العنوان الغريب على القارئ العربي، هو الرمزية التي تحملها "المالينشة" في ثقافة أميركا اللاتينية عموما. فقد اشتهرت بكونها المرأة التي أهداها قومها للمستعمر الإسباني إرنان كورتيس للتقرّب إليه ونقل تحركاته لأهلها، لكنها وقعت في حبه.

وبدلا من أن يستفيد قومها من وجودها معه، استخدمها كورتيس كخليلة ومترجمة للغات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، إذ كانت تتحدث لغات المايا والناواتل إضافة للإسبانية التي سرعان ما أتقنتها، فتحوّلت المالينشة إلى لعنة بالنسبة لشعبها الذي اعتبرها خائنة.

هي نفسها تأثرت بتلك اللعنة، فلا هي كانت قادرة على الدفاع عن نفسها أمام قومها وتبرير حمايتها لكورتيس بدافع الحب وإن كان قاتلا ومستعمرا، ولا تبادل هذا المستعمر معها الحب ولا شاركها رغبتها في إحلال السلام بينه وبين قومها. وما كان منه سوى استغلال معرفتها بالأرض واللغات للقضاء على شعوب تلك المنطقة وفرض لغة وديانة جديدتين.

وقد ربطت غدير أبو سنينة رمزية خيانة المالينشة بالعمل المترجم. فالترجمة خيانة للنص الأصلي، كما يُقال. بيد أن أمرا آخر تشير إليه غدير ويربط ما بين الشعراء المترجمين والمالينشة، وهو أنهم أبناؤها، إذ ينتمي معظم شعوب القارة اللاتينية لعرق جديد هو "المستيسو" وهو ثمرة اختلاط الأوروبيين بالسكان الأصليين في أميركا اللاتينية. وفي سياق الأسطورة، يُقال إن أول تلك الثمار كانت ابنة المالينشة من كورتيس.

شعراء أميركا اللاتينية

ضمت الأنطولوجيا، شعراء من تشيلي وكولومبيا وكوستاريكا والأوروغواي والمكسيك والأرجنتين والهندوراس وغيرها، وصنّفت أقسامه وفق أسماء تلك البلدان القديمة، أي كما كانت قبل الغزو، إذ لا يمكن فهم شعر أميركا اللاتينية اليوم وآدابها عامة بعيدة عن تاريخ القارة التي انصهرت فيها ثقافات عدة، بطرق عنيفة على الأغلب، إضافة إلى أن بعضا من معاني البلدان الأصلية تبدو وكأنها شعر، فنهر الطيور الملونة هو الأوروغواي، و"تشيلي" هو اسم مستوحى من صوت طائر معروف في تشيلي، أما "أرض أسطورة الذهبي" فهي كولومبيا المعروفة بأسطورة تنصيب زعيم قبائل المويسكا في بحيرة غواتاتيفا المقدسة.

أما القصائد فتنتمي لـ"قصيدة النثر"، بيد أن القارئ سيلحظ التباين في أسلوب كل شاعر وكيف يضفي كل منهم على قصيدته طابعا مختلفا يميّز الصوت الشعري. وعلى مستوى الشكل، فسنلمس التجديد في شكل القصيدة ومضمونها، كأنما يثبتون المقولة المنتشرة في كل بلد بالقارة تقريبا، أن الكل شاعر حتى يثبت العكس.

وعودة لعنوان المختارات، فاللعنة مرتبطة بالمالينشة، ويوصف الشخص الذي يحب الغرباء المحتلّين في المكسيك بأنه مصاب بلعنة المالينشة، وما زال هذا الوصف مستخدما حتى اليوم، في السياق السياسي لوصف عمليات الخصخصة مثلا وسيطرة الولايات المتحدة تحديدا على بعض مقدّرات البلاد وسياستها الدولية، فيقول الناس إن الحكومة مصابة بلعنة المالينشة.

أُسقطت اللعنة من عنوان الكتاب الذي ظنّت مترجمته أنه مصاب بلعنة أخرى أخّرت صدوره بسبب تعقيدات النشر في العالم العربي. يقع الكتاب في 176 صفحة ويضم 15 شاعرة وشاعرا.

ومن المفارقات أن تكون القصيدة الأولى التي ارتأت المترجمة أن تتصدر المختارات هي قصيدة "سوبرماركت" للشاعر التشيلي "خافيير كامبو". وتشيلي كما يقول أهلها بلاد لا يمكن أن تكون محطّة وقوف للطائرات "ترانزيت" فهي لبعد موقعها الجغرافي المحطة الأخيرة دوما.

بيد أن قصيدة "سوبرماركت" تبيّن أن الشعر لا يعترف بالجغرافيا، فكامبو كتبها مباشرة وهو يشاهد في التلفاز، الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش وهو يهدد باحتلال العراق عام 2003، ليوفي مباشرة بوعيده، تقول قصيدة السوبرماركت:

السوبرماركت

اليوم لن أتحدث عن غزو العراق، بل عن السوبرماركت المليء بالأطعمة على أشكالها

تلك التي لا تخطر ببال أحدٍ، بعضها ضروري.. وبعضها لا

فواكه جاءت من أقصى أركان الكوكب، أرز بجميع الأحجام، أبيض وبألوان عدَّة

ما كان ينتجه سكان أميركا الشمالية الأصليون

ما كان ينتجه الصينيون منذ آلاف السنين في آسيا، والهنود في طعامهم المتبَّل الشهي لأن العالم كلَّه يعرف أن "الكاما سوترا" كُتبت بعد الشَّبع

هناك يعيش التفّاح الفوّاح بألوانه ونكهاته

تفاح من العالم لا يُرى كما يُرى في هذا السوبرماركت

ما يراه الكوبيون بضائع من ذهب لم ينمُ عندهم أبدا، فقط نمت حلاوة قصب السكر في كوبا وهي موجودة في هذا السوق أيضا

عنب تشيلي، الوردي والأسود والأبيض، كبير كحبات زيتون إشبيلية

الجبنة من فرنسا وألمانيا ومن أوريغون الماطرة

خضار قادم من الصين، وماليزيا، ومدغشقر، وفيتنام

ومن أميركا الوسطى الكزبرة العطرة أو فلفل آواخاكا المكسيكية الحار القوي

بيرة بولونيا وروسيا ونيويورك، مشروب الرون النيكاراغوي أو مشروب كوبا الألذ "هابانا كلوب"

جامبون إسبانيا وبلاد الباسك، برتقال فلوريدا والأندلس الضخم

طماطم غوادالاخارا، البصل التشيلي للسيفيتشي البيروفي، الخبز المصنوع من حبوب لا تحصى تخلِّف رائحة دافئة وحميميّة في البيت

خبز يومي موجود هنا كل ساعة وبشكل دائم

لا أحد يجوع في هذا السوبرماركت… …

نبيذ تشيلي، الأرجنتين، إسبانيا، أستراليا، ألمانيا، هنغاريا وكاليفورنيا، كلها موجودة في تلك الحديقة

من أجل حاجاتنا والحاجات التي لا نحتاجها وأيضا الحاجات التي نحلم بها هنا على الرفوف التي تصلها اليد

ثمار الكون هادئة ولطيفة ومتاحة

الناس السائرة في هذا السوبرماركت تعتقد أن هذه الأماكن في كل مكان بالعالم، حتى أكثر مناطق العراق بعدا

هذا المكان هو حديقة عدن لأن التاريخ يقول إن جنة عدن في بابل، قريبا من بغداد التي كانت واحدة من أحلى مدن الشرق بحدائقها المعلقة التي جعلتها من عجائب الدنيا السبع.

لأن بغداد كانت المدينة التي استطاعت أن تلهم حكايا ألف ليلة وليلة بعد أن أكل العشاق وشربوا مالئين قلوبهم باللذة والحب

لكن هناك في جنوب بغداد كانت مدينة أور منذ عام 4000 ق.م، حيث ولد النبي إبراهيم المبجَّل من اليهود والمسيحيين والمسلمين

إلّا أنَّ أحداً لا يفكِّر بسوق بلاد الرافدين العتيقة ("مهد الحضارات الإنسانية الأولى للعالم القديم"، كما تقول الموسوعة البريطانية نفسها)، حيث تسقط ملايين القنابل في هذه اللحظات…

إنما في هذه السوق أيضا لا أحد يفكر بالحرب ولا ببلاد الرافدين العتيقة، ولا بالنبي إبراهيم ولا بقصص ألف ليلة وليلة، ولا بالقنابل النووية ولا بملايين الأموات الذين يتساقطون هناك كحشرات بسبب الهواء الملوَّث والدخان المخلوط بيورانيوم القنابل.

يلوثون المياه والحدائق والحقول والوديان والأنهار والخلجان وكل البذور، كي تنتج هذه المنتوجات الجميلة في هذا السوبرماركت اللطيف بموسيقاه الشائعة، لأن الأرض ستصبح هناك ولزمن طويل في جزيئات من اليورانيوم أو ستستحمُّ ببلايين الغالونات من النفط الخام

في قرن الماعز الضخم هذا، لا أحد يعرف ماذا تعني هذه الحرب لأن هذه الكلمة لم تُلفظ أبدا بين الخضروات وبين هذه الحبوب الشهية

آلاف الأكياس بآلاف حبوب القهوة الفواحة، ينابيع الحليب بدسم كامل أو خالية الدسم، اللحوم المنوعة، الأسماك اللذيذة من جميع أنهار وبحار الكون، متعة أكل العنب في أي فصل من فصول السنة، احتساء نبيذ شهي ثم ممارسة الحب يعني أن تعيش حياة مثالية

لا أريد الحديث عن الحرب في هذه اللحظة بل عن هذا السوبرماركت الذي أذهب إليه، لأشتري حاجاتي الأساسية سعيدا مبتهجا دون أن أذكر أبدا كلمة "حرب".

المصدر : الجزيرة