نقيض العنصرية البيضاء.. كيف أثرت حركة القوة السوداء على "الحقوق المدنية" بأميركا؟

مظاهرة لحركة القوة السوداء محاطة برجال الشرطة في أغسطس 1970 (ويكي كومنز)
مظاهرة لحركة القوة السوداء محاطة برجال الشرطة في أغسطس/آب 1970 (ويكي كومنز)

في ستينيات القرن الماضي تشكلت حركة "القوة السوداء" في الولايات المتحدة الأميركية، وتبنت مجموعة من الأهداف تراوحت بين الدفاع عن السود ضد الاضطهاد العنصري الأبيض، إلى بناء مؤسسات اجتماعية واقتصادية وحتى مكتبات وتعاونيات ومزارع ووسائل إعلام مملوكة حصرا للسود.

ورغم أن الحركة تعرضت للنقد من حركة الحقوق المدنية السائدة، لميلها إلى العزلة ودعمها الواضح للفصل العنصري، وتبنيها لفكرة التفوق الأسود على الأعراق الأخرى، وحتى لاستخدامها العنف، فإن التفاعل بين الحركتين ظل مستمرا.

ويرى باحثون أن الحركتين كانتا متكاملتين ولم تتناقضا في أهدافهما رغم اختلاف وسائلهما.

تكامل وتبادل
ونشرت قناة "التاريخ" التلفزيونية الأميركية على موقعها الإلكتروني مقالا تناول تأثير حركة القوة السوداء على حركة الحقوق المدنية.

وعلى الرغم من أن حركة الحقوق المدنية تعود جذورها إلى أواخر القرن 19 حيث انصب تركيزها على الاعتزاز بالعِرق الأسود والمناداة بتقرير المصير، فإن الاعتقاد السائد لدى قادة حركة القوة السوداء هو أن حراك الحقوق المدنية في أميركا لم يكن كافيا، كما تقول الكاتبة سارة بروت في مقالها بالموقع الإلكتروني للقناة.

وبحلول عام 1966، اكتسبت حركة الحقوق المدنية زخما لأكثر من عقد من الزمن حيث تبنى آلاف الأفارقة الأميركيين إستراتيجية تقوم على الاحتجاج السلمي الذي ينبذ العنف ضد الفصل العنصري والمطالبة بحقوق متساوية بموجب القانون.

غير أن تلك الإستراتيجية لم ترُق -كما تقول سارة بروت- لأعداد متزايدة من الأفارقة الأميركيين -ولا سيما الشبان والشابات منهم- الذين رأوا أنها لا تحقق إنجازا، وأن الاحتجاج على سياسة الفصل العنصري أخفق في التعامل مع ظاهرة الفقر والعجز عن إحداث التغيير المنشود في الأوضاع الناجمة عن عهود من التمييز المنهجي والعنصرية التي رزح تحت وطأتها العديد من الأميركيين السود.

وشددت حركة القوة السوداء -التي ازدهرت في أواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي- على ضرورة تركيز الأميركيين السود على امتلاك القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بدلا من محاولة الاندماج في المجتمع.

ووفقا لمقال قناة التاريخ (History TV)، فقد استلهمت الحركة تلك الأفكار من مبادئ الاستقلال الذاتي وتقرير المصير التي عبر عنها الداعية الأميركي المسلم مالكوم أكس (اغتيل في عام 1965)، وحركات التحرر في أفريقيا وأميركا الجنوبية.

ومع أن نشطاء القوة السوداء -خصوصا المجموعات الأكثر تشددا مثل حزب الفهود السود، وهي حركة حقوقية للأميركيين السود- لم ينبذوا اللجوء إلى العنف، إلا أنهم تبنوا دعوات مالكوم أكس بعد مقتله، أي المطالبة بالحرية والمساواة والعدالة للسود "بأي وسيلة ممكنة".

مسيرة ضد الخوف
برزت حركة القوة السوداء إبان مسيرة ضد الخوف من مدينة ممفيس في ولاية تينيسي إلى مدينة جاكسون في ولاية مسيسيبي وذلك في يونيو/حزيران عام 1966، كقوة موازية لحركة الحقوق المدنية الرئيسية.

وبدأ تنظيم "مسيرة ضد الخوف" كمحاولة فردية من جيمس ميريديث، الذي أصبح أول طالب أميركي من أصول أفريقية يلتحق بجامعة مسيسيبي في عام 1962.

وانطلق ميريديث مطلع يونيو/حزيران 1966 في مسيرته من ممفيس إلى مدينة جاكسون قاطعا مسافة تزيد على 320 كم، أراد من خلالها تسليط الضوء على استمرار العنصرية في مسقط رأسه ولتشجيع تسجيل الناخبين للتصويت بعد إقرار قانون حق التصويت في عام 1965.

وبعد إطلاق مسلح أبيض النار عليه وإصابته بجروح عديدة على أحد الطرق الريفية في مسيسيبي، قرر قادة ثلاث منظمات حقوقية كبرى إكمال المسيرة باسمه بعد نقله إلى المستشفى. والقادة الثلاثة هم مارتن لوثر كينغ الابن من مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية، وستوكلي كارمايكل من اللجنة التنسيقية الطلابية المناهضة للعنف، وفلويد مكيسيك من مؤتمر المساواة العرقية.

وبينما كانت الولايات المتحدة غارقة في وحل حرب فيتنام، وبدأت حركة الحقوق المدنية بقيادة كينغ تفقد زخمها، كانت أفكار حركة القوة السوداء تحظى بقبول متزايد وسط الأميركيين السود.

الازدهار والرد العنيف
وبعد خلاف بين نهجيهما، أحيا كينغ وكارمايكل -الذي كان أول من استخدم تعبير القوة السوداء كشعار سياسي وجماهيري- تحالفهما مجددا أوائل عام 1968 حين كان كينغ يخطط لتنظيم "حملة الفقراء" بهدف حشد آلاف المحتجين في واشنطن "دي سي" أو العاصمة للمطالبة بوضع حد للفقر في البلاد.

لكن في أبريل/نيسان 1968، اغتيل كينغ في ممفيس التي سافر إليها للإعراب عن دعمه لعمال الصرف الصحي الأميركيين المضربين في المدينة.

وفي أعقاب مقتل كينغ، أدت حالة الحزن العميق والغضب الشديد التي انتابت الجماهير إلى اندلاع أعمال شغب في أكثر من مئة مدينة أميركية.
 
وفي وقت متأخر من ذلك العام، كانت أبرز مظاهر الاحتجاج التي اندلعت تلك التي شهدتها دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في مدينة مكسيكو سيتي بالمكسيك، عندما رفع اثنان من العدائين الأميركيين السود -هما جون كارلوس وتومي سميث- قبضتهما في منصة التتويج بما يعرف آنذاك بـ"القبضة السوداء".
‪تومي سميث وجون كارلوس يرفعان شعار القبضة على المنصة بعد سباق 200 متر في أولمبياد‬  (ويكي كومنز) 
‪تومي سميث وجون كارلوس يرفعان شعار القبضة على المنصة بعد سباق 200 متر في أولمبياد‬ (ويكي كومنز) 

وبحلول عام 1970، كان كارمايكل (الذي غيّر اسمه فيما بعد إلى كوامي توري) قد انتقل إلى أفريقيا، وحلت جماعات أكثر تشددا، مثل حزب الفهود السود والمنظمة الأميركية وجمهورية أفريقيا الجديدة وغيرها، محل اللجنة التنسيقية الطلابية المناهضة للعنف في طليعة حركة القوة السوداء.

ونظر كثيرون في مجتمعات البيض نظرة سلبية إلى حزب الفهود السود وجماعات القوة السوداء الأخرى، واعتبروها حركات تميل إلى العنف وتعادي البيض وفرض سلطة القانون.

وفي مقال لموقع الجزيرة الإنجليزية، اعتبر الناشط الحقوقي والباحث الأميركي عمر سليمان أن التعليم الأميركي والصور النمطية السائدة تعطيان انطباعا بأن مارتن لوثر كينغ هو البطل المثالي الذي نبذ العنف وآمن بالسلام بينما يتم تصوير مالكوم أكس بطريقة الشرير العنيف المحرض على الكراهية.

ويرى سليمان أن مالكوم -الذي ألهم حركات القوة السوداء- لم يكن عنيفا أبداً ولكنه "وجد أنه من النفاق أن يُطلب من السود في الولايات المتحدة الالتزام باللاعنف عندما كانوا دائمًا في الطرف المتلقي لعنف الدولة، وكان يعتقد أن السود في الولايات المتحدة لهم الحق في الدفاع عن أنفسهم".

ويتابع سليمان أن مالكوم عرف أن إصراره على مبدئه من شأنه أن يصوره كشيطان لكنه أراد أن يدعم مطالب كينغ الذي ذهب لزيارته ودعمه قبل أسابيع من اغتياله، وهكذا كان للرجلين إستراتيجيتان متكاملتان لتحقيق الحرية للسود في الولايات المتحدة.

المصدر : الجزيرة + الصحافة الأميركية