الأديب الفلسطيني يحيى يخلف للجزيرة نت: الزمن تغير بعد أوسلو والرواية سرد لمكر التاريخ

سحب يخلف روايته "الريحانة والديك المغربي" من جائزة البوكر العربية على خلفية التطبيع الإماراتي الأخير مع إسرائيل (مواقع التواصل)

لا يزال الكاتب الفلسطيني الكبير يحيى يخلف، منذ مجموعته القصصية الأولى "المهرة" الصادرة سنة 1972 وحتى روايته الأخيرة "الريحانة والديك المغربي" الصادرة حديثا عن منشورات الأهلية، يحفر عميقا في الجرح الفلسطيني بكل آلامه وتقلباته.

ورغم أنه آثر منذ بداياته التجديف عكس تيار جيله الذي عشق الغوص في بحور الشعر والقصائد حيث سلك هو طريق القصة والرواية، فإن روايته الأخيرة وأيضا متنه الإبداعي يعودان بنا دائما إلى الشعر بلغته الشاعرية النقية الصافية، وقصص أبطاله الرمزية التي تتسربل بالحب وتنفتح على الأمل والفرح، وتخلق من تناقضات الواقع الفلسطيني المؤلم أجنحة عجائبية تحلق بعيدا نحو المعاني العميقة للأدب والأفق الرحب لتطلعات الكائن البشري وسرمدية الحياة.

ولأننا نتعثر عبر كل إبداعاته وكتاباته بشجرة فلسطين وقضيتها العادلة التي تسكن قلوب كل الشعوب العربية مغربا ومشرقا، فكأننا بيحيى يخلف يستعيد صرخة رفيقه درويش "كل قلوب الناس جنسيتي فلتسقطوا عني جواز السفر".

ويعتبر يحيى يخلف المولود سنة 1944 ببلدة سمخ قرب بحيرة طبرية، آخر جيل الرواد المنسجمين مع ضمائرهم، الذين يتشبثون بالحلم ويؤمنون بقيمة الكتابة والإبداع والثقافة في تغيير الواقع الفلسطيني والعربي، لذلك لم يتردد لحظة واحدة في سحب روايته "الريحانة والديك المغربي" من جائزة البوكر العربية التي تمولها الإمارات على خلفية التطبيع الإماراتي الأخير مع إسرائيل. لنتأكد بحق أنه آخر المثقفين العضويين بالمعنى الغرامشي للكلمة.

تحدثت ريحانة في رواية يحيى يخلف عن "سي المبارك" الذي سحرته بلاد الشام وفلسطين والقدس (الجزيرة)

قدم يحيى يخلف الكثير من القصص والروايات الناجحة على غرار "نورما والثلج" و"تلك المرأة الوردة" و"تفاح المجانين" و"نشيد الحياة" و"ماء السماء" و"جنة ونار" و"نهر يستحم بالبحيرة" و"تلك الليلة الطويلة" و"نجران تحت الصفر" و"بحيرة وراء الريح"، التي فازت بجائزة دولة فلسطين التقديرية للآداب عام 2000، وقد ترجمت معظم هذه الأعمال القصصية والروائية إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية.

في هذا الحوار الخاص بالجزيرة نت، تحدث يحيى يخلف عن روايته الجديدة "الريحانة والديك المغربي"، وعن دور الأدب والثقافة الفلسطينيين في بلورة مشروع إبداعي نضالي فلسطيني مستقل، وتفرع الحديث ليشمل جيل الرواد من أمثال غسان كنفاني ومحمود درويش وسميح القاسم، دون أن ننسى بعض القضايا الثقافية العربية الراهنة. فإلى الحوار:

ونحن نقرأ رواية "الريحانة والديك المغربي"، نستعيد قصيدة محمود درويش "جواز السفر"، وخاصة مقطعها الذي يقول "كل قلوب الناس جنسيتي فلتسقطوا عني جواز السفر"، من خلال قصة شجرة الصنوبر التي حملها البطل سي المبارك معه من فلسطين وزرعها في تونس، والتي بقيت صامدة في وجه العواصف التي لم تتمكن من اقتلاع جذورها الضاربة عميقا في مشارق الأرض ومغاربها، وبالإضافة إلى ذلك مثلت هذه الشجرة/الفكرة برمزيتها مركز الحكاية التي يلتقي حولها ويتفيأ في ظلها جميع شخصيات وأبطال الرواية، فإذا كان المعنى الرمزي الظاهر الذي يبتغي يحيى يخلف إيصاله هو أن شجرة فلسطين وقضيتها العادلة تسكن قلوب كل الشعوب العربية، مغربا ومشرقا، فما المعاني الرمزية الخفية التي يريد الكاتب يحيى يخلف إيصالها عبر هذه الرواية خاصة، وبقية متنه الإبداعي عموما، إلى القارئ العربي؟ 

الرواية موضوعها فلسطين ومحيطها القومي، وتتحدث عن القدس في عهد الانتداب البريطاني والاستيطان الصهيوني، وعن فلسطين وثوراتها من ثورة 1929 إلى ثورة 1936 فحرب 1948.

وتتحدث عن مهاجر مغربي عاش في حارة المغاربة، وكان من علمائها وفقهائها، وكان مناضلا شجاعا من رجال ثوراتها، ومن جبال القدس حمل شتلة (فسيلة) من شجرة صنوبر وزرعها في أرض تونس، لتكون رمزا لقداسة ومكانة القدس في وجدان أمّة. وتأتي سيرة المهاجر سي المبارك في إطار عام لحكاية حب فلسطيني مغاربي، وسرد ممتع لحكايات تتدفق بلا انقطاع. الرواية ليست سردا للتاريخ، وإنما هي سرد وجداني في مرحلة من مراحل مكر التاريخ. سرد رمزي لعلاقة فلسطين بمحيطها القومي القريب والبعيد.

ولعلّها من أوائل الروايات التي تؤرّخ وجدانيا لعلاقة فلسطين مع دول المغرب العربي، وللوجود المغاربي في فلسطين الذي يعود بعضه إلى زمن الأمير عبد القادر الجزائري، وبعضه الآخر إلى زمن الحروب الصليبية، ومشاركة المتطوعين المغاربة للقتال مع جيوش صلاح الدين الأيوبي الذي خصص لهم حيّا في القدس عرف على مدى القرون بحي المغاربة.

الرواية تتحدث بشكل وجداني عن علاقة فلسطين والقدس بمحيطها القومي، تتحدث عن حلاوة الانسجام لا مرارة التباين.

ألا تعتقد أن هذه المعاني المثالية الأدبية التي تحاول إيصالها والتي تتردد دائما من كون القضية الفلسطينية تسكن في وجدان كل عربي، هي فقط كلام إعلامي إنشائي لذر الرماد في العيون، خاصة مع الواقع العربي هذه الأيام الذي يناقض هذه الأحلام المثالية من خلال سرعة وكثرة الدول العربية المهرولة اليوم نحو التطبيع مع إسرائيل، حتى صار السائرون عكس هذا التيار الجارف نشازا؟

على الرغم من أنّ بعض الأنظمة العربية هذه الأيام تخلّت عن الثوابت العربية، وسعت إلى التطبيع مع الاحتلال ونظام الفصل العنصري الإسرائيلي، فإن الشعوب العربية في مشرق الوطن العربي ومغربه ما زالت على عهدها في الوقوف بقوّة إلى جانب كفاح الشعب الفلسطيني.

وإذا عدنا إلى استنتاج ما تقوله الرواية، فالرواية من حيث المبدأ هي رواية القدس وفلسطين من منظور فلسطيني عربي، بسرد يحتفي بجماليات المكان وقوّة روح الإنسان، ووحدة المصير القومي. والروايات بشكل عام تتحمل الكثير من التأويل، وتتحمل تعدد القراءات.

الروائي يحيى يخلف (يمين) صحبة أديب نوبل نجيب محفوظ (الجزيرة)

بوصفك كاتبا ومثقفا فلسطينيا، ما رسالتك من وراء سحب ترشيح روايتك "الريحانة والديك المغربي" من جائزة البوكر العربية التي ترعاها الإمارات؟ وكيف تنظر إلى موجة التطبيع التي غرقت فيها الكثير من الدول العربية؟ وهل باستطاعة الأدب والثقافة، باعتبارهما آخر الحصون التي تسقط في أي معركة حضارية أو سياسية، مقاومة هذا المد الكبير من التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي؟

سحبت روايتي "الريحانة والديك المغربي" من التقدم لجائزة البوكر الممولة من الحكومة الإماراتية احتجاجا على التطبيع الإماراتي الرسمي مع إسرائيل، دولة الاحتلال والفصل العنصري. وهذا حقي بوصفي كاتبا ومثقفا ومواطنا عربيا فلسطينيا. ولا بد هنا من التوضيح أننا نحن الفلسطينيين نحترم ونقدر ونحتفظ بكل الود لأبناء شعبنا العربي في الإمارات وغيرها من دول التطبيع، ولا نقاطع المثقفين والمبدعين وأبناء الشعب الذين يدعمون قضيتنا، ولعلني هنا أتذكر ما قاله الكاتب والمبدع رجاء النقاش: الجامعة العربية ليست ذلك المبنى الكائن على الشاطئ الشرقي لنهر النيل في القاهرة، وإنما الثقافة العربية بآدابها وفنونها وتراثها ولغتها هي التي تجمعنا.

لماذا برأيك تراجع دور القوة الناعمة الفلسطينية "الثقافة"، وخفت صوتها في شحذ الهمم وبث روح الحماس والمقاومة بين الشباب والفصائل والشعب الفلسطيني، ولم تعد بالدرجة التي كانت عليها زمن جيلكم؟ هل ماتت هذه القوة الناعمة بموت أغلب الرواد والمؤسسين من أمثال فدوى طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم وغسان كنفاني ومعين بسيسو وناجي العلي، أم أن سياسيي اليوم هم من أهملوها وأهملوا دورها الريادي المقاوم حتى تلاشت شيئا فشيئا؟

الأدب الفلسطيني، شعرا ونثرا، لم يتوقف في كل مراحل النضال الفلسطيني، وكذلك الأدب العربي وما يصاحبه من الفنون والأنواع الثقافية لا يتوقف. لكن عندما يكون هناك نهوض وطني قومي تنهض الآداب والفنون وكل أشكال وأنواع العطاء الثقافي، وعندما يتراجع النهوض القومي يتراجع الإبداع ويتراجع العطاء. المبدعون الفلسطينيون هم من أوجد ظاهرة في الأدب العربي هي ظاهرة أدب المقاومة. ضبط الإبداع الفلسطيني خطواته على إيقاع المقاومة الفلسطينية عندما كان الزمن مديدا والقامات شامخة والسقف السياسي عاليا.

كان هناك غسان كنفاني ومحمود درويش ومعين بسيسو وإدوارد سعيد وسميح القاسم وقامات كثيرة عالية. في هذه المرحلة ما زال هناك ثقافة فلسطينية مميزة، ما زال الإبداع الفلسطيني ينمو في جو الصمود والتحدي.

صحيح أن الزمن تغيّر بعد اتفاق أوسلو، لكنْ ما زال هناك إبداع فلسطيني مختلف يتصدر المشهد الثقافي العربي والإنساني لأجيال من المبدعين الكبار والمبدعين الشباب. وكما قلت فإن هناك ثقافة تنمو وتتطور في ظل التحدي والصمود.

ونحن نتحدث عن الثقافة والأدب والفكر، أتذكر القولة الجميلة للمخرج السوري الكبير مصطفى العقاد الذي يقول "معركتنا مع الغرب معركة إعلام" وثقافة وفكر ومعرفة أصيلة، فهل تعتقد أن موجة التغريب والانسلاخ عن القيم العربية الإسلامية الأصيلة، والارتماء في أحضان الهويات القاتلة للحضارات الأخرى والذي تدعمه وتلقمه أمواج العولمة المتلاطمة، مرده اضمحلال الثقافة الجادة وتهميش الكتاب والمفكرين والمثقفين الحقيقيين وتبعيتهم للسلطة السياسية؟

للأسف الشديد اليوم المستوى السياسي لا يعطي الثقافة الموقع العالي الذي تستحق، ولا تخصص للثقافة الميزانيات التي تسهم في النهوض الثقافي الفعلي. الثقافة عندنا عطاء فردي، وشأن مجتمعي، وتستمر الثقافة الفلسطينية في العطاء والتميز في الإبداع، ولعلّ وجود وزير ثقافة كاتب ومبدع شاب الآن يمكن أن يشكّل قوة دافعة لحركة الحياة الثقافية بآدابها وفنونها وسماتها المادية والروحية. الحياة الفلسطينية مستمرة، والثقافة مستمرة. الحياة مستمرة على الرغم من كل جرائم الاحتلال وظلم بعض ذوي القربى. الأرض تدور، والشمس تشرق، والحياة تمضي، ولا نفقد الأمل.

تصميم أغلفة كتب بحيرة وراء الريح – اليد الدافئة – نجران تحت الصفر
من أعمال الروائي الفلسطيني يحيى يخلف (الجزيرة)

ماذا بقي من محمود درويش في وجدان وذاكرة يحيى يخلف وأنت الذي عاصرته وعرفته عن قرب؟ وماذا بقي من محمود درويش في هوية فلسطين، وذاكرة اللغة -أي لغة-، ورائحة الأرض، وسجع الحمام، وحفيف الأشجار، وصوت الريح، وصرخة المظلوم، وبحور الشعر وقوافيه؟ ماذا بقي من محمود درويش في فاكهة الخلود؟

محمود درويش شاعر عظيم، شاعر فلسطيني وعربي وعالمي. شاعر رفع مكانة القضية الفلسطينية، وساهم في تطوير القصيدة العربية، ولعب دورا كبيرا في الحياة الثقافية والمشهد الثقافي العربي.

بدأ شاعرا عندما كانت الأقلية العربية داخل إسرائيل تحكم بقوانين عسكرية، ومعه كان نخب من شعراء الأرض المحتلة مثل سميح القاسم وتوفيق زيّاد وراشد حسين وغيرهم، الذين عرّف بهم غسّان كنفاني من خلال كتابه "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة".

وعندما خرج محمود درويش والتحق بالعمل في مركز الأبحاث الفلسطيني، دخل في عمق المشهد الثقافي، وازدادت تجربته نضوجا، وساهم في تطوير القصيدة العربية وتعميق مجرى الإبداع الشعري، وتصدّر مشهد الإبداع الشعري العربي والعالمي. وقد مثّل محمود درويش قوة الثقافة في السياسة، فهو من كتب وثيقة بيان الاستقلال وإعلان قيام الدولة المستقلة في دورة المجلس الوطني في الجزائر عام 1988، وهو الذي وضع اللمسات الأخيرة على خطاب الرئيس عرفات التاريخي في الأمم المتحدة عام 1974 والذي قال فيه: جئت إليكم وأنا أحمل غصن الزيتون في يدي، وفي اليد الأخرى أحمل بندقية الثائر فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي.

وهو الذي كان نثره لا يقل جمالا عن شعره.

محمود درويش ليس من أهم مبدعي فلسطين فقط، وإنما من أهم الشعراء العرب، وهو شاعر عالمي معروف، وترجمت أعماله إلى معظم لغات العالم.

محمود درويش غزال يسكنه زلزال.

المصدر : الجزيرة