شعار قسم مدونات

ديارات النصارى في الأدب العربي

Dair Mar Elia (Doug CC Via WikiCommons)
تغنى الشعراء العرب كثيرا بالديارات وبأهلها من الرهبان والراهبات وليس ذلك غريبا فقد كانت الديارات منتزهات يلتقي فيها الأحبة (مواقع التواصل الإجتماعي)

من أمتع ما تجده في الأدب العربي: "أدب الديارات". والديارات أو الأديرة، هي جمع دير، والدير مكان معتزل عن المدينة يتعبد فيه الرهبان، لأنه إذا كان في المدينة سمي كنيسة. وقد كانت أديرة النصارى في بلاد العرب، ملهمة للشعراء والأدباء في مختلف العصور الإسلامية.

كان الدير يكبر أو يصغر تبعا لعدد القاطنين فيه من الرهبان، فقد يتسوعب مائة راهب فأكثر، وقد تقل طاقته عن ذلك.

عني العلماء والبلدانيون في الإسلام بالتدوين عن تلك الديارات وقصصها في الأدب العربي، كأبي الحسن الشابشتي الذي ألف كتاب الديارات، فكان كتابه أهم مصدر في هذا الباب

وقد يكون الدير أيضا في أعلى الجبل، منحوتا في الصخر، وقد يكون على الأرض مبنيا من الطين وسعف النخل، أو من غير ذلك من المواد، تبعا لطبيعة المكان وبيئته، وتبعا للخبرة المعمارية للسكان.

يكون في الدير عادة، بيت مائدة مخصص للأكل، وفيه مخزن يحفظ المؤن والطعام، وفيه مكان مخصص للضيوف والزائرين، وفيه مكان مخصص للكتب، لحاجة الرهبان للمطالعة والتثقف والتأليف، ويكون فيه أيضا مكان خاص بالراهب لا يدخله إلا هو، وهذا المكان هو القلاية التي هي صومعة الراهب، فتجد في الدير الواحد قلالي كثيرة كما في قول الشاعر:

أم هل أرى القصر المنيف معمما .. برداء غيم كالرداء رقيق

وقلالي الدير التي لولا النوى .. لم أرمها بقلى ولا بعقوق

اشتهر الكثير من الأديرة (أو الديارات) في تاريخ الإسلام، فكانت في العراق ديارات مشهورة، وكانت في الشام ديارات مشهورة، وأما في مصر فحدث ولا حرج، فديارات الأقباط أكثر من أن تحصى.

وقد عني العلماء والبلدانيون في الإسلام بالتدوين عن تلك الديارات وقصصها في الأدب العربي، كأبي الحسن الشابشتي الذي ألف كتاب الديارات، فكان كتابه أهم مصدر في هذا الباب. ومثله كتاب الديارات لأبي الفرج. وقد ذكر ياقوت في معجمه الشهير أكثر من 180 ديرا في بلاد العرب.

وقد تغنى الشعراء العرب كثيرا بالديارات وبأهلها من الرهبان والراهبات، وليس ذلك غريبا، فقد كانت الديارات منتزهات يلتقي فيها الأحبة ويتسامر فيها الندماء، وقد وجدت ديارات مخصصة للراهبات من العذارى ومن غيرهن، فكان تجوالهن في الدير وقيامهن على شؤون ضيوفه وزائريه، كانت رؤية كل ذلك متعة للزائرين بما أن الدير مكان عام، ومن هنا جاءت مساهمات الشعراء في تخليد ما يرونه في الدير.

ألا رب يوم قد نعمت بظله

أبادر من لذات عيشي ما صفا

ومن الأديرة المشهورة، دير درمالس في بغداد، وقد كان منتزها جميلا حوله الحدائق والبساتين، وفيه يقول أبو عبد الله بن حمدون:

يا دير درمالس ما أحسنك .. ويا غزال الدير ما أفتنك

لئن سكنت الدير يا سيدي .. فإن في جوف الحشا مسكنك

ويحك يا قلب أما تنتهي .. عن شدة الوجد بمن أحزنك

ارفق به بالله يا سيدي .. فإنه من قتله مكنك

ومن ديارات العراق كذلك دير الجاثليق، الذي يقول فيه محمد بن أبي أمية الكاتب:

تذكرت دير الجاثليق وفتية .. بهم تم لي فيه السرور وأسعفا

ألا رب يوم قد نعمت بظله .. أبادر من لذات عيشي ما صفا

أغازل فيها أدعج الطرف أهيفا .. وأسقى به مسكيةَ الطعم قرقفا

فسقيا لأيام مضت لي بقربهم .. لقد أوسعتني رأفة وتعطفا

وتعسا لأيام رمتني ببينهم ودهر .. تقاضاني الذي كان أسلفا

ومن الأديرة التي كانت منتزهات دير يونس بن متى الذي ينسب للنبي يونس عليه السلام، وكان هذا الدير في الموصل وفيه يقول الشاعر:

يا دير يونس جادت صوبك الديم .. حتى ترى ناضرا بالنور تبتسم

لم يشفِ في ناجر ماء على ظمإ .. كما شفى حرَّ قلبي ماؤك الشبم

ولم يحلك محزون به سقم .. إلا تحلل عنه ذلك السقم

أستغفر الله من فتكي بذي غنج .. جرى علي به في ربعك القلم

أما أديرة الشام فمن أشهرها دير سمعان الذي دفن فيه عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وقد ذكره محارب بن دثار في رثائه للخليفة العادل، حيث يقول:

لو كنت أملك والأقدار غالبة .. تأتي صباحا وتبياتا وتبتكر

صرفت عن عمر الخيرات مصرعه .. بدير سمعان لكن يغلب القدر

هنالك تصفو لي مشارب لذتي

وتصحب أيام السرور حياتي

أما مصر، فمن أشهر دياراتها دير القصير، الذي كان على قمة جبل المقطم، فكان منحوتا في الجبل، وتطل من ذلك الدير فترى الدنيا تحت ناظريك فهو مطل على القرى والصحراء، ومطل أيضا على النيل، فترى مناظر خلابة حين تطل منه، وهذا الدير هو الذي قال فيه طباخ سيف الدولة كشاجم أبياته المشهورة:

سلام على دير القصير وسفحه .. بجنات حلوان إلى النخلات

منازل كانت لي بهن مآرب .. وكن مواخيري ومنتزهاتي

إذا جئتها كان الجياد مراكبي .. ومنصرفي في السفن منحدرات

فأقبض بالأسحار وحشي عينها .. وأقتنص الإنسي في الظلمات

معي كل بسام أغر مهذب .. على كل ما يهوى النديم موات

ولحمان مما أمسكته كلابنا .. علينا ومما صيد في الشبكات

وكأس وإبريق وناي ومزهر .. وساق غرير فاتر اللحظات

كأن قضيب البان عند اهتزازه .. تعلم من أطرافه الحركات

هنالك تصفو لي مشارب لذتي .. وتصحب أيام السرور حياتي

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.