شعار قسم مدونات

الشباب.. صوت التغيير في عالم الظلام

يتحرك الشباب بمظاهرات واحتجاجات ضخمة مناصرة لغزة في البلاد الغربية وأميركا خصوصا (رويترز)

لماذا يتحرك الشباب بمظاهرات واحتجاجات ضخمة مناصرة لغزة في البلاد الغربية أميركا وأوروبا، بينما يخيم سكون مدهش بين شعوبنا وشباب منطقتنا الأقرب رحما ودينا؟

لم يعد هذا السؤال ملاحظة ذكية بل حقيقة فاقعة تضرب العين، فيبدو أن لدينا مشكلة حقيقية في فهم التغيير وتقنيات تحريك الصخرة الاجتماعية، ولخطورة ذلك فقد تولى صاحب الرسالة الخاتمة رسم خارطة التغيير بنفسه حين قال في حديثه المشهور: (من رأى منكم منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان). رواه مسلم وأبو داود.

يتطلب التغيير وجود حركة مناهضة ومدافعة، تواجه المنكر والظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وتضغط على الجهات التي تمارسه، بحيث يترتب على هذه المواجهة والضغط زيادة احتمالية التغيير، بدون الحركة الضاغطة لا يوجد تغيير.

التغيير التعبيري يكون بالرأي المناهض للمنكر والظلم والضغط على الجهات والأشخاص، وهو استخدام للقوة الناعمة ويمثلها اللسان كصورة مجازية (فليغيره بلسانه)

حركات التغيير الخمسة

هذه الحركة وقوة الضغط تقع بين ثلاث درجات أساسية، التغيير باليد والتغيير باللسان والتغيير بالقلب، وهي تجسد ثلاث إستراتيجيات كبرى لاستخدام قوة التغيير: التغيير المادي هو استخدام لقوة السلطة والتدخل المباشر الصلب، والتغيير التعبيري استخدام لقوة التعبير والكلمة في الضغط، والتغيير القلبي استخدام لقوة النفس:

  • حركة التغيير المادي: التدخل الملموس المباشر وإحداث تغيير في العناصر المادية للمنكر والظلم القائم، ومواجهة أصحاب المنكر والظلم بالقوة ومحاولة إيقافهم وإضعاف مواردهم وضرب مصالحهم، فهو استخدام للقوة الصلبة وهو ما تعبر عنه اليد كصورة مجازية (فليغيره بيده).
  • حركة التغيير التعبيري: التعبير عن الرأي المناهض للمنكر والظلم والضغط على الجهات والأشخاص، وهو استخدام للقوة الناعمة يمثلها اللسان كصورة مجازية (فليغيره بلسانه).
  • حركة التغيير النفسي: يناضل الشخص هنا لإحداث التغيير في نفسه كي لا يسمح للظالمين وأصحاب المنكر أن يسيطروا عليها ويجعلوها موالية لهم، المثير للانتباه أن التغيير الفردي الداخلي يتجه لمواجهة القلب نفسه من أن يتصالح مع المنكر والظلم وليس لتغيير المنكر والظلم في الواقع، أي أنك تواجه نفسك وتضغط عليها ان تبقى منحازة للحق والحقيقة، وهذا ما يعبر عنه القلب كصورة مجازية (فليغيره بقلبه).

بين التغيير باليد واللسان توجد درجة مضمرة هي التعبير الحاشد العلني، فهي في تصنيفها العام مجرد تعبير عادي عن الرأي في الأوساط هنا وهناك، لكن علنيتها وحشدها وتنظيمها يمنحها قوة ضغط تقارب قوة التغيير المادي، بل تتجاوزه في بعض الحالات، وهناك درجة بين التغيير باللسان والقلب هي حركة التغيير النفسي الجماعي، بأن يتداول الناس رفضهم للمنكر في مجموعات ودوائر مغلقة وكيف يمكن أن يواجهوه، كأن يحدثوا أصدقاءهم وعائلتهم ومن تربطهم بهم علاقات ثقة، الهدف هنا أن يغيروا أنفسهم ونفوس من حولهم من الدوائر القريبة التي يمكن التأثير فيها، لكنهم لا يتحركون لمواجهة المنكر والظلم مباشرة لا باليد ولا باللسان.

إذا رتبنا درجات التغيير التي يمكن للحركة أن تنشط فيها نجدها هكذا:

  1. التغيير المادي
  2. التغيير التعبيري الحاشد
  3. التغيير التعبيري العادي
  4. التغيير النفسي الجماعي
  5. التغيير النفسي الفردي

التغيير النفسي الفردي هو القاع الذي لا يجوز النزول إليه إلا عند العجز الفعلي عن درجات التغيير الأعلى، كما يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم، لأن هذا القاع ملاصق لقبول المنكر والظلم، فصاحبه لا يحرك ساكنا في الواقع ولا يفصله عن المنكر والظلم سوى غلاف رقيق من الأفكار وخواطر نفس.

إن احتقار التغيير التعبيري يضيق الفضاء السياسي المتاح ولا يستثمر إمكاناته، وهذا يخالف البدهيات الإسلامية في الحريات والتغيير، ولخطورة الأمر تولى الرسول بنفسه مرة أخرى تحديد وزن القوة التعبيرية ولم يدعها لتقديراتنا، فجعلها ضمن عمليات الجهاد وخارطة المواجهة

تحرير المخيال السياسي

هذا الحديث يحرر المخيال السياسي للناس ويؤسس لطريقة مختلفة في فهم التغيير ومسؤولة المجتمعات وأدوار الشباب فيه، يشير عبيدة عامر أن أحد الأسباب التي تثبط الحراك الشبابي اليوم أنهم يقدمون سؤال الجدوى المادي على سؤال المعنى الروحي والأخلاقي والتراحمي، فصار أي حراك أو نشاط شخصي يقيم بالورقة والقلم والنتيجة الملموسة المباشرة، فإن لم يعط نتائجه -بهذا المقياس الضيق- ذهب الناس إلى السكون والانغلاق على النفس أو التحسر والدعاء في أحسن الأحوال، وهذا ما يفسر عدم وجود احتجاجات ضخمة في مناطق يمكن التظاهر والاحتجاج فيها في كثير من المدن والعواصم الإسلامية بالعالم، والمسوغ لذلك عدم وجود "جدوى مادية مباشرة" في إيقاف العدوان على غزة.

خطورة هذا التفكير أنه يمنعنا من اختراق الجدار الزجاجي للتاريخ، على الرغم من أن الحركات الاجتماعية الجديدة تستثمر قوة الرأي العام وتضغط من خلاله وتأخذ شكل "الحركات التعبيرية" مقارنة مع الحركات الكلاسيكية التغييرية، يوضح ذلك حركة "حياة السود مهمة" في السنتين الماضيتين مقابل حركة "الحقوق المدنية للسود" في الستينات.

من جهة أخرى فإن احتقار التغيير التعبيري يضيق الفضاء السياسي المتاح ولا يستثمر إمكاناته، وهذا يخالف البدهيات الإسلامية في الحريات والتغيير، ولخطورة الأمر تولى الرسول بنفسه مرة أخرى تحديد وزن القوة التعبيرية ولم يدعها لتقديراتنا، فجعلها ضمن عمليات الجهاد وخارطة المواجهة، ثم منحها مكانة مرموقة في تلك الخارطة، فقال: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" وفي رواية: "أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" (أبو داود والترمذي)، أن تطالب بالحق والعدل أمام السلطة الجائرة، فما بالك حين تكون كلمة الحق أمام المنظومة العالمية الجائرة وليس أمام سلطان جائر محدود في بلده.

كل واحد فينا يستطيع أن يشارك بتلك العملية الكبيرة مهما بدا عمله صغيرا، وفي الحالة المعتادة بإمكان كل واحد تقريبا أن يمارس التغيير النفسي الجماعي فيحدث أصدقاءه وأهله والمقربين منه وينشر الوعي والمعلومات حول فلسطين

كيف نمارس التغيير؟

لم يبقى أمامنا أي خيار ديني أو أخلاقي إلا أن نشارك بالتغيير، المطلوب للمشاركة بالتغيير أن نفعل الأمور التي تزيد احتمالية حدوث التغيير، سواء أخذنا شكل حركات التغيير المباشرة أو حركات التغيير التعبيرية أو حركات التغيير النفسية، العمل الذي يدفع احتمالية التغيير للأعلى هو كل عمل (يصب في اتجاه التغيير + فيه استمرار واستدامة ونفس طويل + يكون ضمن شبكة أعمال ممتدة تتحرك لنفس الوجهة).

كل واحد فينا يستطيع أن يشارك بتلك العملية الكبيرة مهما بدا عمله صغيرا، وفي الحالة المعتادة بإمكان كل واحد تقريبا أن يمارس التغيير النفسي الجماعي فيحدث أصدقاءه وأهله والمقربين منه وينشر الوعي والمعلومات حول فلسطين ويعمل أنشطة صغيرة متنوعة.

هكذا سيكون من المنطقي أن "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل" لأنه يوفر الاستدامة ومراكمة معمار التغيير، وسيكون من المنطقي أن "لا تحقرن من المعروف شيئا"، لأنه يصب في اتجاه التغيير نحو المعروف وكبح المنكر والظلم، وسيكون من المنطقي شرط التواصي للربح: (تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)، لأن التواصي يوفر شبكات قوية قادرة أن تحمل فوقها الكثير من القضايا والقيم والمصالح، وعلى قدر تماسك تلك الشبكات تكون مؤهلة لحمل قضايا أكبر.

درجات التغيير مفتوحة والممكن أكبر مما نتخيل

بالنسبة للشباب خاصة شباب وشابات الجامعات في البلاد الإسلامية فإن أمامهم مساحة واسعة جدا للحركة ضمن درجات التغيير، والعاجز من ظن أن الأبواب كلها قد انغلقت وليس هناك إلا طريقة واحدة، يمكن أن تبدأ عملية التغيير بمبادرة وفكرة يتجرأ شاب أو شابة على طرحها بين أصدقائه ويصر عليها حتى يتجاوب معه عدد صغير، ثم يتحول معهم إلى فريق يضع خطة للتغيير من خلال التعبير عن الرأي والموقف، ويبحث الأشكال والأساليب المناسبة للبيئة والوضع القانوني والسياسي في بلده.

ويستقطب للحراك شخصيات مهمة في الجامعة والمجتمع العام، وينسق مع الجهات التي تتحرك في سياق الجامعات القريبة والبعيدة. أشكال التعبير مفتوحة، ابتداء بالاعتصامات والوقفات وانتهاء بحملات إلكترونية ونشاط على وسائل التواصل الاجتماعي وتحديات تيك توك ومراسلة إيميلات مع شخصيات مؤثرة.

لكل بلد ظروفه ومعطياته التي تتيح أشكالا من التغيير وتحجب أشكالا أخرى، لكن المهم أن لا ينزل الشباب والشابات إلى القاع، فهذا حال العاجزين الذين هم في درجة أضعف الإيمان. فدرجات التغيير مفتوحة والممكن أكبر مما نتخيل. هناك التغيير النفسي الجماعي بأن يتحرك كل شاب وشابة ويثير القضية في دوائره القريبة، وهناك التغيير التعبيري العادي بأن يعلن دعمه لفلسطين وفضح جرائم الاحتلال في الأوساط المتاحة حوله، ثم هناك التغيير التعبيري الحاشد بأن يشارك مع مجموعات منظمة تضغط على الرأي العام والسياسات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.