أعادني مشهد نائب رئيس جامعة كولومبيا منذ أسابيع وهو يتهرب بوقاحة من الإجابة على سؤال الطلاب المروع: هل الفلسطينيون بشر؟ إلى أحد خطابات الرئيس السوري خلال الفترة الأولى من انطلاقة الثورة السورية عام 2011، عندما وصف المتظاهرين بالجراثيم، تمهيدا لارتكاب أكبر وأفظع المجازر بحقهم على مدى سنوات طويلة ودون أي رادع.
ورغم أن التاريخ الإنساني يحفل بالمجازر والحروب القذرة، إلا أن الدول غالبا وأثناء خوضها غمار المعارك كانت تتبجح بخطابات الإنسانية والعدالة والخير. أما القاتل اليوم فقد هيأ الأجواء ونزع صفة الإنسانية عن خصمه حتى يمرر أبشع الجرائم ويبيد المدينة عن بكرة أبيها مرتكبا إبادة جماعية لا مثيل لها في العصر الحديث، دون أن يعيقه أي صوت معترض. لدرجة أنه لم يجد غضاضة في اختيار المشافي كبنك رئيسي لأهدافه، بعد أن أقنع العالم بفكرته حول وصف الآخر "بالحيوانات".
لمن لا يعرف موقع غزة، فهي ليست جزيرة معزولة في وسط البحر أو في أعالي الجبال وبحاجة للمروحيات، بل هي مدينة غارقة في أوحال جغرافية عالم عربي متعاجز، يرفع الأسوار والسدود والحدود الفاصلة مع القطاع.
وانساق الجار مع "إشاعة" العدو وروايته قبل غيره فرأينا مروحيات جيوش العرب ترمي الطعام والمعونات عشوائيا على الشعب المحاصر، فإن كان الحظ حليفا نزلت في البحر وتمكن الأطفال من التقاطها دون أن تبتلعهم أمواجه المتلاطمة، أو ربما سقطت على رؤوس الجموع المنتظرة لهفة "الإنسانية" فرأينا الشهداء قد نجوا من القنابل وقتلتهم صناديق المعونات.
ولمن لا يعرف موقع غزة، فهي ليست جزيرة معزولة في وسط البحر أو في أعالي الجبال وبحاجة للمروحيات، بل هي مدينة غارقة في أوحال جغرافية عالم عربي متعاجز، يرفع الأسوار والسدود والحدود الفاصلة مع القطاع.
رأيت في مشهد الكراتين المتساقطة من السماء ما أعاد إلى ذهني المشهد السينمائي لزوجة وابنة الحاكم العام الفرنسي بول دومر، وهما تلقيان عملات معدنية صغيرة أمام أطفال في فيتنام. يتقافز هؤلاء الأطفال ويحاولون التقاط النقود التي تلقيها السيدتان، وبعد أكثر من مئة عام يقفز إلى أذهاننا تساؤل مريب: كم يوحي تطابق الصور والمشاهد بتطابق المقاصد والغايات؟
اعتاد الشباب العرب على التغني بتشي جيفارا ومقاومته ورجولته وعناده. أما اليوم لدينا عربيا يشعر بالمذلة والدونية من جهاد أهل غزة.
يسعى المجرم لاغتيال الضحية معنويا، من خلال كل هذه المشاهد والإيحاءات اليومية وسط الحرب، ويجردها من إطارها الإنساني، وذلك ضمن جهوده لحجب أي تعاطف معنوي أو غيره معها، لأنه وخلاف ذلك سيبقى ملزما تجاهها بحد أدنى من "التعامل الإنساني" مهما حملها من التهم والإدانات.
وفي الوقت الذي يستشرس فيه الاحتلال في حربه المعنوية والمادية، تظهر ردود فعلنا على هذه الحرب، الخلل الكبير والتشويش المدروس الذي تعرضت له قيم وأفكار ومسلمات جيل عربي بأكمله. إن الاغتيال المعنوي للثائر والمقاوم اليوم سبقه مساس بقيم إنسانية وعربية وإسلامية أصيلة مثل المروءة والأنفة والعزة والكرامة، وبطبيعة الحال المقاومة والثورة إذ فيهما رفض قاطع للمذلة والظلم، ودفاع عن القيم المثلى دون النظر للأثمان الدنيوية.
وكنا قد شهدنا زمانا يقدس فيه الأبطال والمقاومون بصرف النظر عن توجهاتهم السياسية أو أديانهم ومللهم، واعتاد الشباب العرب على التغني بتشي جيفارا ومقاومته ورجولته وعناده. أما اليوم لدينا عربيا يشعر بالمذلة والدونية من جهاد أهل غزة، يعيب عليهم رجولتهم ويقارن بين حال مدينتهم وصعوبة توفير أساسيات الحياة وبين عواصم أخرى تغرق في النعيم المقيم، ويخيرنا بين حياة الأذكياء أو مأساة الأغبياء!
يرى أهل العدل والحق أن المقاومة والثورة هي أساس الإنسانية، وبهما يعزز الإنسان هويته في الحياة، إذ قد يختار الموت إنسانا عزيزا على الحياة بلا شرف
كيف تبدلت أحوالنا نحن، من شعوب تشعر بالعجز والمسؤولية عما يحدث لإخوانهم وتغبطهم على جهادهم وصبرهم وتفتخر بمقاومتهم وصمودهم، إلى حال يتفاخر فيه الرجل بنجاته من المحرقة الكبرى وبتطاوله في البنيان وتوفر أسباب الرفاهية لديه، معايرا إخوانا له بأنفتهم ودفاعهم عن حقوقهم. وهنا يحضرني ما قاله وائل عادل مرة في كتابه وهو يدلل على إنسانية البشر بقدرتهم على المقاومة والمجابهة ووقوفهم بوجه الظلم حتى في زمن الصمت: إن المقاومة سلوك نابع من بشريتك كإنسان، فهو واجب فردي به تكتمل إنسانا، سواء أعانك الناس أم خذلوك، فإن عاونوك فربما تقهر الظلم وإن خذلوك فحسبك أنك قاومت الظلم الأكبر، ظلم الجموع الصامتة.
أفكر في كل هذه المواقف المتخاذلة وأنا أتذكر قصص الطغاة والمتجبرين عبر الأزمان هل كان هذا حال قوم نوح إذ يسخرون منه ومن أصحابه والتفاف "الأراذل" حوله؟ وما ضره ولا ضرهم وصفهم بـالأراذل وكانوا هم الأعلون في ميزان الحق والعدل.
لكن الأصل أنه عند سعي المجرم لتجريد الثائرين من صفتهم ووجودهم الإنساني، يرى أهل العدل والحق أن المقاومة والثورة هي أساس الإنسانية، وبهما يعزز الإنسان هويته في الحياة، إذ قد يختار الموت إنسانا عزيزا على الحياة بلا شرف. وأن ميزان العلو والرفعة هو الإيمان، يقول الله عز وجل (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين) [آل عمران: 139].
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.