شعار قسم مدونات

غزوة رمضان وأعمدة المجتمع!

مفتي مصر السابق علي جمعة (مواقع التواصل الإجتماعي)

في كل عام وقبيل دخول شهر رمضان، تتكرر نصائح المشايخ والمصلحين، بضرورة الاستفادة من هذا الشهر الذي يعد فرصة من الله للمسلمين يضاعف فيه أجور الأعمال، وتسكب فيه الرحمات، وتنزل فيه السكينة، وتسلسل فيه الشياطين، إلا شياطين الإنس، ويؤكد المصلحون على أهمية الوقت وعدم إهداره في الملهيات من مسلسلات أو أفلام أو غيرها، وتأجيل ذلك لما بعد الشهر، حتى لا يضيع، ويتواصوا كذلك بوجوب حسن الخلق والعفة وغض البصر، وكأن الشهر معسكر تدريبي، لمواجهة منافسات الدوري خلال باقي العام، حتى نفوز بالجنة.

الأغرب أن يدور حوار في برنامج من المفترض أنه ديني، على نفس الفكرة، فيسأل فتى في عمر السادسة أو السابعة عشرة، عن الحب والصداقة بين الفتيات والشباب والتواصل والاختلاط، والأغرب أن يرد الشيخ، بأنه مباح.

لكن المشاهد هذا العام، والكلام هنا على القنوات الناطقة باللهجة المصرية، تفننت كما كل عام في ضخ عدد ضخم من المسلسلات، وبين كل لقطة ولقطة في المسلسل سيل من الإعلانات، وهو ما يؤكد على أن المنتج ناجح، واستطاع أن يجذب عددا كبيرا من المعلنين، ما يعني أن الأرباح ستنهمر في شهر الكرم، لكن اللافت أن أغلب الإعلانات التي يقدمها ممثلون ومغنيون مشهورون، تقدم نفس الفكرة، وإن اختلف المنتج المعلن، والفكرة هي متابعة شاب، أو حتى فتى، لفتاة ليخطب ودها، ويوقعها في شباكه، حتى أصبحت هذه الإعلانات، وكأنها غزوة على الأخلاق والقيم المجتمعية، لكن الأغرب أن يدور حوار في برنامج من المفترض أنه ديني، على نفس الفكرة، فيسأل فتى في عمر السادسة أو السابعة عشرة، عن الحب والصداقة بين الفتيات والشباب والتواصل والاختلاط، والأغرب أن يرد الشيخ، بأنه مباح.

لست عالما ولا أدعي، وإن كنت درست الفقه، وحصلت على شهادة عليا في تخصص الشريعة، لكني مع ذلك لا أدعي العلم، وكلامي الناقد هنا ليس في صوابية ما قال الشيخ، ولكن في توقيت قوله الذي يتزامن مع إذاعة تلك الإعلانات التي ذكرت، وكلك في المخاطب بالحديث، وظروف المجتمع الذي سيتلقى الحديث، وعدم تأصيل الحديث، وعدم تعريف الضابط الذي وضعه الشيخ لضبط العلاقة ورسم حدود الاختلاط، كل ذلك يجعلنا نراجع هذا النهج الذي رسم منذ عشر سنوات، ويدفع له المجتمع دفاعا سواء للعنف أو الإسفاف أو الرذيلة أو رفع الأراذل وخفض أصحاب القيم، بالتزامن مع برامج التواصل الاجتماعي التي باتت، ماسورة صرف صحي أخلاقي يخرج فضلاته على المجتمع، مع تراجع الخطاب الديني الواعظ المتزن الأصولي ومنع أصحابه.

منذ بدء الخليقة، ويبحث الإنسان عن حياة بغير منغصات وما يكدر صفوه، ويريد أن يعيش في مجتمع فاضل، حتى أنشغل الفلاسفة بالمساءلة، فكتب أفلاطون، كتابه عن المدينة الفاضلة، ولم يألوا الفلاسفة المسلمون جهدا في البحث عن تلك المدينة فكتب الفارابي؛ كما كتب ابن خلدون باحثون عن ذلك المجتمع.

ودار البحث في أطر عدة بين العمران والإنسان، وبين حياة هذا الإنسان وبين طريقة حكمه، إلا أنني هنا معنى بالناحية الاجتماعية لهذه المدينة الفاضلة، وما يجب أن يكون مسالك الناس فيها، ومن ثم كيفية بناء هذا المجتمع، فلن تنبني هذه المدينة الفاضلة إلا على دعائم، ومنها ما أستطع أن أحصر كالواعظ الديني، والمبادئ الأخلاقية المؤسسة على قيم إنسانية، وتقاليد منبثقة من خلفية دينية، وحرية للفكر والرأي في إطار أخلاقي نابع من معرفة جيدة بالحِل والحرمة، ونظام سياسي يسمح بالتمثيل الحقيق لوجهات النظر المختلفة، ومناهج تعليمية وتربوية ومعرفية مخططة لتنشئة المجتمع على الفضائل، وأجهزة رقابية تحول بين الناس والزلات، واستحضار للقدوة سواء من الماضي أو من الحاضر المعاش، فالقدوة هي أفضل طرق التربية على الإطلاق، فلا يجوز أن يربي الناس على أمر، ويسلك مشاهير المجتمع، في شتى المجلات، خلاف ما يلقن المجتمع، لذا تأتي أهمية أعمدة المجتمع أو نجومه في ترسيخ تلك القيم.

لكي يعود المجتمع المنشود علينا أن نعيد بناء أعمدة هذا المجتمع من المخلصين من أبناء هذه الأمة من العلماء والمبدعين والأدباء والشعراء وأصحاب الفنون من الصناع والتجار وأصحاب المبادرات الذين ينحتون في الصخر من أجل رفعة هذه الأمة وتقدمها

فقول لي من نجوم مجتمعك أقول لك قوة هذا المجتمع، فلو كانت الصحافة ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة يتصدر برامجها العلماء وأساتذة الجامعة والمدرسين والمفكرين والشعراء والقصاصين والنقاد والمخترعين والمبدعين من شباب المدارس والجامعات وأبطال الرياضة الحائزين على المراكز الأولى في المسابقات، وتتصدر أخبار العلوم والفنون في العالم صفحات الجرائد ومقدمات البرامج، فأنت تعيش في مجتمع متحضر قوي شاب يروى من نهر الحضارة ويضخ فيه.

ولقد أسس النبي صلى الله عليه، وسلم لبناء حضارة المسلمين على هذا الشكل بأن صدر للشباب القدوة، وفتح لهم أبواب التعلم منهم، وسمح لخيالهم أن يتقلد فكرة يمثلها شخص، وأن يتشبه بأحد تلك القدوة، فهذا أبو بكر.. الحكيم الحليم، وهذا عمر، العدل الشجاع القوي، وهذا خالد بن الوليد، القائد المغوار، وهذان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، الاقتصاديان البارعان، وهذا حسان بن ثابت الشاعر والأديب العظيم، وهذا سلمان الفارسي، المخطط العسكري.

لقد كانت هذه هي أعمدة المجتمع المسلم الذي بنى حضارة هذه الأمة، وكان هؤلاء هم القدوة والمثل، فلقد كانت مدارس وجامعات الدولة الإسلامية منارات يستضيء بها العالم في بهيمة الجهل المدقع الذي يعيشون فيه، ولقد كانت المدن الإسلامية كبغداد والبصرة والكوفة والقاهرة ودمشق والموصل والزيتونة وقرطبة وسمراء وطشقند وفاس والقيروان بيوت علم يحج إليها الهاربون من ضلالات الجهل، وعندما تراجع الاهتمام بالعلم والعلماء، وانخرط الناس في الملاهي، واهتم الحكام بالترف، وأهملوا سياسة الناس، وزرع المبادئ المبنية على الدين فاعتلاهم الوهن فداستهم خيل الاحتلال، ولضمان دوام هذا الاحتلال كان لزاماً أن تهدم القيم الأخلاقية في المجتمع، ويبث الفساد، وصدروا الفسدة وقدموهم نجوماً للناس، وتحولت بوصلة الشباب عن العلم والفن.

ولكي يعود المجتمع المنشود علينا أن نعيد بناء أعمدة هذا المجتمع من المخلصين من أبناء هذه الأمة من العلماء والمبدعين والأدباء والشعراء وأصحاب الفنون من الصناع والتجار وأصحاب المبادرات الذين ينحتون في الصخر من أجل رفعة هذه الأمة وتقدمها، وحتى تجد هذه الأمة لها مكانا بين الأمم المتحضرة سعيا لتقود العالم بأثره من بعد، فلن يكون ذلك إلا من خلال ما ذكرناه من عوامل بناء المجتمع الفاضل جنبا إلى جنب مع عودة القدوة من أعمدة المجتمع.

يقول أحد المستشرقين: إذا أردت أن تهدم حضارة أمة، فعليك بهدم الأسرة، وهدم التعليم، إسقاط القدوات والمرجعيات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.