شعار قسم مدونات

عكاظ الشناقطة أو مجلس التراث الحسني.. مباهج وآمال

بلاد شنقيط من أمصار الغرب الإسلامي قد ردت الجميل لأهل العراق والبصرة التي دونت فيها العلوم ونضجت فيها المعارف اللغوية (مواقع التواصل الاجتماعي)

في هذه الأيام كنت منهمكا في البحث عن الإرهاصات العلمية والجدلية التي مهدت لظهور الإمام أبي الحسن الأشعري، وعن العوامل التي أسهمت في انتشار مذهبه العقدي، أراجع لذلك أجزاء من كامل ابن الأثير ومنتظم ابن الجوزي، وطالما لفت انتباهي عناية مؤرخي الإسلام بتدوين التفاصيل واليوميات حتى لكأنه لم يلفظ علم من الأعلام كلمة إلا دونوها، أو قال حكمة إلا وثقوها، وفي أثناء ذلك الانهماك رمى إلي الصديق العزيز "المختار ولد القاسم" ابن قرية بير الفتح الجميلة تسجيلات في بريد الواتساب مع صورة كتبت بخط جميل عنوانها "مجلس التراث الحسني: عناق الأجيال".

فتحت التسجيل الأول فإذا بالدكتور الأديب التقي ولد الشيخ يلقي كلمة أدبية فاخرة كعادته تجمع بين الإنشاد والإنشاء تستدعي الماضي الحسني العريق في الشعر والأدب، وتقترح تأليف حماسة شعرية على خطى حبيب بن أوس أبي تمام، تنتقي أطايب القريض الذي جادت به القرائح الحسنية على مر العصور، مستنهضا همم الشباب ليواصلوا "عناق الأجيال"، سائرين على خطى الفحول من أسلافهم كالذيبين والأحولين وابن المعلى ومن تهابهم "اللسن الخناذيذ والمصاقع كلا".

ثم فتحت التسجيل الثاني فإذا بالشيخ الشاعر والإمام الداعية محمدن ولد يحظيه يواصل ما بدأه الدكتور التقي بخطبة عصماء أسرتني في انطلاقها وفصاحتها وثرائها وعمقها، وثنى كلمته البديعة بقطعة شعرية من ذلك الأدب الذي يسميه الصديق أحمد فال ولد الدين بـ"القلم الريان"، وهو مصطلح شرحته من قبل، ويقصد به تلك النصوص والكتابات الأدبية الممتلئة بالإحالات التاريخية والدلالات الثقافية.

جانب من أمسية شعرية أقامها مجلس التراث الحسني (مواقع التواصل)
جانب من أمسية شعرية أقامها مجلس التراث الحسني (مواقع التواصل)

في عكاظية ولد يحظيه يجد المتلقي نفسه فجأة جالسا بين يدي محمدو ولد حنبل وهو يدلل لوحه في الصباح الباكر معرضا عن الخرد الرعابيب، متحديا ألوف العاذلين، أو سامرا بين "أعلام القريض" الذين يفوقون الحصر في بني حسن، ولك أن تقيس كثرة الشعراء الحسنيين في قديم الزمان بعددهم اليوم بعد زهد الناس في العربية وإدبار الأدب وكساد سوقه، وانتشار العجمة، فهل يصدق أحد اليوم في الشرق والغرب أنه في قبيلة واحدة يجتمع أكثر من 100 شاعر فصيح في أمسية شعرية؟.

فالشعر والعربية عند علماء الإسلام من الحسنيين وغيرهم كانا طريقا لفهم القرآن ووسيلة لتدبره، وهناك ينقلك ولد يحظيه بسلاسة إلى أماسي الشيخ الأحمذي ومجلس ذكره الذي ما حذاه إنسان في "مراقي الأواه"، تلك الأماسي المطمئنة الزاهية بتحبير القرآن الذي صاغ شخصية هذه الأمة المكرمة وأخرج علماءها وعبادها وزهادها ومنهم آل أحمذيه وحسبنا أنهم شيوخ شيخ القطر وعلامة العصر الإمام بداه ولد البوصيري الذي يفتخر بتلك التلمذة الحسنية الأحمذية التي تركت فيه أثرا بالغا من الخشية والاتباع، وإنما يتفاضل العلماء في هذين.

يصف الإمام بداه ولد البوصيري خشية شيخه المفسر ولد أحمذيه فيقول: "رأيت الشيخ أحمدو ولد أحمذيه مرة وكنت أعرض عليه القرآن، فجعل يركض بين كثيبين حتى يصعد على رأس الكثيب وينحدر حتى يصعد على الآخر وهو يكرر قول الله تعالى: “يوفك عنه من أفك”، ويبكي".

فالخشية والورع كانا سِمتين بارزتين في أعلام علماء الحسنيين، وهما مصدر قوة تأثيرهم في طلابهم، ومما رأيت بعيني من ذلك وعايشته تأثير شيوخ محظرة تندغماجك البالغ في نفوس طلابهم، وهو التأثير الذي اقتبسوه من أنوار شيخ الشيوخ العلامة أحمدو فال ولد محمذن فال الحسني فزرعه في أبنائه وخريجي محظرته وأشياخها الذين اقتدوا به في السمت والزي والإنابة، وهو اقتبسه من شيخه العلامة يحظيه ولد عبد الودود ذي التأثير القوي والمؤسس في جل شيوخ من أدركنا من أكابر شيوخ المحاظر.

أخبار الورع والزهد لدى هؤلاء العلماء الأفذاذ بلغت من التواتر والشهرة ما يغني عن تدوينها، وقد عبرت تلك الأخبار القارات ورواها أهل المشرقين؛ فقد حدث الأديب الفصيح والكاتب البليغ والمؤرخ المقدسي الثبت الدكتور أسامة الأشقر قال: "كنت مرة آخذا بيد الشيخ الجليل أحمدو ولد محمد حامد الحسني الشنقيطي رحمه الله –وكان أعلم أهل زمانه فيما رأيت- فمررنا في الحرم بحلقة يتكاثر عليها طلبة العلم أشياخا وشبابا وفتيانا، فشدني الشيخ، وجلس آخر الحلقة، وجلست إليه، فما لبث قليلا حتى بدأ يحوقل ويسترجع، ثم مسح دمعة نزلت من عينيه بطرف عمامته، وقام، وقال كما قال الأول:

تصدر للتدريس كل مهوس .. بليد تسمى بالفقيه المدرس

فحق لأهل العلم أن يتمثلوا .. ببيت قديم شاع في كل مجلس

لقد هزلت حتى بدا من هزالها .. كلاها وحتى سامها كل مفلس

فقلت للشيخ معزيا: إن الخيام كخيام القوم، ولكن نساء الحي غير نسائها !

فضحك، وعبر، وعبرت معه !".

وللدكتور أسامة الأشقر ومضات جميلة عن هذا الشيخ ومنهجه تدوولت أيام رحيل الشيخ في عام 1428هـ، وقد زرت الشيخ العلامة أحمدو ولد العلامة محمد حامد ولد آلا الحسني في أعوامه الأخيرة بقرية العويسوية فرأيت من آيات التعبد والإنابة والجلد على ذلك ومضاء العزيمة ما يصعب على أهل اليوم تصديقه بله التشبه به، ويلاحظ من استقصى أخبار الشيخ أحمدو هذا أن جهوده في التعليم والتربية بسلوكه وسمته لا يقل شأنا عن جهود ابن عمه الشيخ محمد الأمين ولد فال الخير الحسني في السفارة العلمية لبلاد شنقيط.

وعلى ذكر الشيخ ابن فال الخير الحسني فكثيرا ما أقول للأصدقاء والباحثين المهتمين بتاريخ الأفكار وحركة العلوم في الأقطار الإسلامية أن بلاد شنقيط من أمصار الغرب الإسلامي قد ردت الجميل لأهل العراق والبصرة التي دونت فيها العلوم ونضجت فيها المعارف اللغوية وغيرها، فقد كانت جهود ولد فال الخير الشنقيطي الحسني العلمية والإصلاحية في الزبير قرب البصرة مدينة الخليل وسيبويه والجاحظ والأصمعي مدعاة للفخر ومصدر عز للشناقطة وأبناء الغرب الإسلامي عموما.

كانت مدرسة النجاة منارة علم سطعت من الغرب الإسلامي على شرقه، وردت الجميل لعراقنا العظيم وللجزيرة العربية، ودائما ما يطربني أي ذكر وإشادة لمدرسة النجاة حين ألاقيه في شهادات من عاصروا تلك الحقبة أو شهدوا آثارها مثل الأديب نجيب المانع الذي يقول في مذكراته ’عمر أكلته الحروف’: "وكنت أصاحب الصبيان الذين درسوا الابتدائية في مدرسة النجاة الأهلية في الزبير، وهي ابتدائية بالاسم فقط، أما المواد التي تدرس فيها فهي تتجاوز أعمار الصبية بسنين كثيرة، ففي تلك المدرسة كانوا يدرسون أدق قضايا النحو العربي، ويتبحرون في الشعر وأوزانه وتفعيلاته، ويمارسون المحاسبة التجارية، ويتعلمون التاريخ الذي كان مستواه يقرب من المستوى الجامعي، وكانوا يدرسون الفقه والشريعة وتفسير القرآن الكريم". ص 9-10.

استمتعت إلى كثير من الإلقاءات الشعرية في مجلس التراث الحسني، ولم ألاحظ خيلاء ولا فخرا مذموما، ولعل الكلمة التأطيرية التي افتتح بها الشاعر العميد الوزير عبدالله السالم ولد المعلى كانت معبرة عن المضامين الأخلاقية التي حرص منظمو العكاظ الشنقيطي على مراعاتها، وهو أمر محمود وحكمة حسنية مقدرة وحس مدني مرهف ليس بالغريب على أحفاد شيخ الشيوخ وأئمة الزهد وأعلام القريض.

تلك هي مباهج هذا العكاظ الجميل الذي اهتممت به شخصيا لأمور، منها؛ غربة العربية في أيامنا وزهد الناس في آدابها، ومنها أن أي جهد توثيقي لعمل ثقافي في بلاد شنقيط يجب دعمه وتشجيعه والإشادة به، فلئن كان قدامى المؤرخين دونوا كل التفاصيل والجزئيات رغم صعوبة الحال وقسوة الظروف فإن أهل زماننا أزهد الناس في التوثيق رغم توفر الوسائل وسهولة التدوين، ولا أجد غضاضة في أن يقوم الأهالي والقبائل بتوثيق دواوين ومؤلفات أسلافهم فهذه ثقافة أهلية أنتجت بوسائل ذاتية فوق ظهور العيس وتحت ظلال الأشجار، والجهات الرسمية المعنية بهذا في الدولة غائبة وضعيفة رغم قدرة بعض موظفيها وإخلاص بعضهم لهذا الإرث.

إن انتظار الجهات الرسمية في حفظ هذا التراث وتوثيقه إضاعة له وتفريط فيه، فلولا الجهود الأهلية لما رأنا ديوان العلامة النبيل الشاعر امحمد ولد الطلبه اليعقوبي بطبعته الفاخرة، ولما رأينا موسوعة العظيمتين للمؤرخ النسابة يحيى ولد سيد أحمد، وموسوعة "الجليس المؤنس في تاريخ وأنساب المجلس" للعلامة الكبير أباه ولد نعم العبد المجلسي، ولما رأينا ندوة عن الشيخ سيدي الكبير، ولا غير ذلك من الأعمال التي هي ذخر للأجيال وهي الباقي لديهم مما شاع وانتشر، وليت الجهود في مثل هذا الباب تتضاعف وتتحسن وتتواصل.

لفت انتباهي في كلمة الدكتور سيد أحمد ولد أحمذيه رئيس مجلس التراث الحسني أنهم خلال ثلاث 3 من تأسيس المجلس أنجزوا 100 ترجمة لأعلام الحسنيين، وأرى أن هذا العدد قليل جدا، وأخاف أن يكون الضائع من أسماء الشعراء والأعلام أكثر، فإن العلم ينقص بموت أهله، فمع رحيل كل عالم يدفن علم كثير، وآمل أن تضاعف جهود المجلس في التوثيق والطباعة والنشر.

وأعتقد أن محافظة الحسنيين وغيرهم على قرض الشعر العربي الفصيح والاعتزاز به رغم هذه العقود الطويلة من الاستلاب الثقافي والغزو الحضاري في العالم الإسلامي هزيمة ثقافية ماحقة لفرنسا التي "تطوي أعلامها" في المنطقة كما قال أستاذنا الدكتور محمد المختار ولد الدمين في محاضرته الأخيرة عن "الحزام الصحراوي المتصدع".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.