شعار قسم مدونات

غزة التي تبكي كل عام مرّة أو مرتين

فلسطينيون يحملون جثمان طفل استشهد في قصف إسرائيلي على قطاع غزة (الأناضول)

ليس يسيرا على الإنسان أن يستخدم اللغة التقريرية حين يكتب عن نكبات شعبه، ومصائب أمته؛ إذ كان هذا الضرب من الكتابة ينأى بالكاتب عن المشهد الذي يكتب عنه، وبالتالي تحويله -أي الكاتب- إلى مجرد ناقل لمجموعة من المعلومات من مصادر مختلفة، شبيه بالحاسب المبرمج الذي تضع فيه المعطيات التي تريد منه ترتيبها لك فيفعل.

وهذا لا بأس به حين يكون موضوع الكتابة موضوعا جامدا مثل الكتابة في علوم الفلك مثلا، أما حين يكون دم إخوتك السيال هو محور المقال وغاية تأليفه، فإن هذا الصنف من الكتابة يصير أقرب للذنب منه إلى الاحترافية؛ وهذا مما جعلني في حال بُعد عن العمل الصحافي الاحترافي، أو المزعوم بأنه احترافي؛ فقد وجدته خاليا من أمارات الحياة، منافيا لطبيعة الإنسان الذي يتأثر حسا وضميرا وفكرا مع الذي ينشد الكتابة عنه.

وإذا ما نظرنا إلى الحال الغزي، حيث تترمل نساء كل سنة، وييتم أطفال كل سنة، ويبكي الرجال قهرا كل سنة، نجد أن الإنسان بطبيعته السوية لا يملك ألا يتفاعل مع هذه المواقف، فيعتريه الحزن على مصاب هذه الثلة المظلومة من البشر، ويملؤه الغضب على صمت العالم والشعوب عن الانتهاكات الصارخة للحقوق الإنسانية المشتركة بين الأمم على اختلاف عقائدها وأحلامها، إلا أن نداء الواجب هذه المرة دفعني لخوض هذه التجربة والكتابة بهذا الأسلوب، وبالله التوفيق.

العدوان المباغت

سمَّت دولة الاحتلال بحكامها وإعلامها وأهل السياسة فيها عدوانهم الأخير على قطاع غزة بـ"بزوغ الفجر"، وهي عملية عسكرية ابتدأها الاحتلال في الخامس من أغسطس/آب الجاري، وانتهت باتفاق وقف إطلاق نيران برعاية مصرية. زعمت قوات الاحتلال أن هذه العملية استهدفت حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني، وهي حركة مقاومة فلسطينية عسكرية معروفة الاسم، مشهودة الأثر في المعارك السابقة بين دولة الاحتلال الصهيونية وبين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.

وقد نجم عن هذا العدوان العسكري استشهاد قائدين كبيرين في حركة الجهاد الإسلامي، هما تيسير الجعبري وخالد منصور. ويختلف الجانبان في إحصائية عدد الشهداء في هذه العملية، فالجانب الإسرائيلي يزعم أن عدد الشهداء وصل إلى 36 شهيدا، من بينهم ما يسمونه 25 "مخربا" (المخرب في لسان الإسرائيليين هو المقاوم في اللسان الفلسطيني) و11 مدنيا، في حين أن وزارة الصحة في غزة أعلنت عن استشهاد 48 شخصا، بينهم 16 طفلا و4 نساء.

موقف عرب الداخل من الحملة الأخيرة

يدّعي الاحتلال أن سبب قيامه بهذه الحملة هو تهديد حركة الجهاد الإسلامي بضرب العمق الإسرائيلي، ردا على اعتقال قائد حركة الجهاد في الضفة الغربية الشيخ بسام السعدي. وهو ما نفاه الحقوقي والناشط السياسي أحمد خليفة، الذي صرّح في منشور له على صفحته في فيسبوك قائلا: "الحقيقة أن كل هذا لا يأتي في سياق اعتقال الشيخ بسام السعدي كما يوهم الاحتلال الجميع إعلاميا وسياسيا ليبرر عدوانه، وإنما في سياق معاقبة الجهاد الإسلامي على إعادة بناء أرضية للمقاومة في الضفة الغربية بعد عقدين من غيابها".

وأضاف خليفة: "لم تستطع إسرائيل -رغم سيطرتها الكاملة على الجغرافيا- أن تمنع اشتداد عضد المقاومة في الضفة، ورغم وحشية القصف الحالي فإن إسرائيل لا يمكن أن تخرج منتصرة من هكذا معركة إذا قرر الجهاد الرد، فمجتمعهم غير قادر على احتمال الحرب، ولا هم تركوا لغزة ما تخسر".

وقد كان لا بدّ لنا أن ننظر لتصريحات نواب الكنيست العرب، لكونهم من أوجه القيادة السياسية في الداخل الفلسطيني، ولأنهم -كذلك- يشغلون مناصب في الكنيست الإسرائيلي. وقد وجدنا التصريحات تسير في مسار واحد هو مسار الشجب والاستنكار، والدعوة لإيقاف العدوان تماما، حتى من أولئك الذين انتكست رؤيتهم، وانضموا إلى أحزاب سياسية يهودية "يسارية"، كشاكلة عيساوي فريج الذي غرد في مواقع التواصل فور نشوب معركة بزوغ الفجر: "لا للحرب، كفى لدائرة سفك الدماء".

ودعا فريج الأطراف جميعا للسعي إلى الحل السلمي على طاولة المفاوضات، عوضا عن خوض معركة عسكرية جديدة لن ينتج عنها سوى: "المزيد من الضحايا، الكراهية واستمرار دائرة سفك الدماء". ومثل فريج، عقبت زميلته غيداء زعبي من حزب ميرتس أيضا قائلة: "أوقفوا العدوان على غزة حالا!"، وحمّلت زعبي رئيس الحكومة الحالي يائير لبيد المسؤولية الكاملة عن هذه المعركة التي بادر بها الاحتلال، حيث قالت: "الحكومة الحالية برئاسة يائير لبيد تستغل الوضع القائم من أجل تبرير ارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين، وللتمهيد للعدوان الحالي واستغلاله كدعاية انتخابية على حساب أرواح الشعب الفلسطيني".

أما عضو القائمة المشتركة النائب أحمد الطيبي، فقد هاجم هذه الحملة بشراسة، وطالب كل من يمكنه التحرك أن يتحرك فورا لإيقاف المجازر التي يرتكبها الاحتلال بحق المدنيين الأبرياء في غزة: "قصف مخيم جباليا مذبحة إسرائيلية جديدة متكررة، على الجميع أن يتخذوا موقفا فوريا لوقف العدوان الإسرائيلي الذي يعد جريمة حرب كاملة الأركان".

الإعلام الإسرائيلي

وأظهر الإعلام الإسرائيلي بأكثره شماتة بالغزيين إثر العدوان الأخير، مصطفّين وراء قياداتهم منصاعين لما تمليه عليهم المخابرات وأهل الحرب في كيان الاحتلال. وأظهر موقع "ynet" الإسرائيلي ريادة في هذا الشأن، في ثاني أيام العدوان على غزة، ونشر: "رعب ويأس في غزة: كل سنة هناك حرب، يكفي!"، واستطردت هيئة التحرير في الموقع وكتبت: "في غضون الأسبوع وقبل أن تبدأ إسرائيل حملة "بزوغ الفجر" ضد الجهاد الإسلامي في قطاع غزة، ذهب الغزيون بكثرة إلى شواطئ القطاع. لقد كانت شواطئ غزة لفترة طويلة تشكل خطرا لمن أراد السباحة والاستجمام؛ بسبب تلوث المياه. لكن مؤخرا افتتحت أغلبية الشواطئ للجمهور، وتمتعوا في القطاع هذا الصيف بعطلة نادرة وهادئة. في الأمس قطعت العطلة (جراء بدء العدوان)".

واستطردوا: "عادت غزة اليوم لتظهر كمدينة أشباح، كانت الشوارع فارغة، وأغلق السكان أبواب بيوتهم عليهم، وأغلقوا ستائر النوافذ. مواطنو غزة يعيشون الآن مجددا شريط الحرب الذي يعرفونه بشكل جيد جدا".

ختام

هناك العديد مما يمكن تلخيصه من العدوان الأخير، والكثير مما يمكن استنتاجه من تصريحات مختلف الشخصيات في جانبي الصراع، على الرغم من الأسى العارم الذي يملأ قلوب جميع المتعاطفين مع القطاع المحاصر وأهله الأبرياء، الذين مهما تحدثنا عن تحدياتهم، وتناولنا الصعوبات التي يكابدونها في حياتهم، فإننا لن نعبّر إلا عن أقل القليل من الذي يواجهونه كل يوم.

علينا أن نتيقن أن الوعي الآخذ بالتزايد لدى شريحة الشباب الفلسطينيين على اختلاف مواقعهم، يبشر بخير عظيم؛ فقد كانت إحدى أكبر المشكلات في تاريخ هذا الصراع جهل الكثيرين به، وبحقيقته، وبما قد يؤول إليه الأمر إذا تلكأ الناس عن المقاومة، واستكانوا إلى الحل السياسي السلمي الذي ولد لنا صفقة أوسلو المشؤومة، وحكاما غير أكفاء لحمل لفظ القيادة الفلسطينية، حكاما لا يرتقون لتطلعات هذا الشعب العزيز بالمقاومة حتى التحرر. هذا الوعي الذي جعله عبد الرحمن الكواكبي (المتوفى 1902) شرطا ضروريا للتغلب على الاستبداد، حين قال: "الوسيلة الوحيدة الفعالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقّي الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس".

 

المراجع

  • موقع ynet الإسرائيلي.
  • موقع حدشوت 12 الإسرائيلي.
  • مواقع التواصل.
  • طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي.
  • تاريخ الفكر الصهيوني، عبد الوهاب المسيري.
  • تصريحات مباشرة للكاتب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.