شعار قسم مدونات

الإعلام المعاصر.. جوانب من المفارقات المريرة

كيف تجذب انتباه وسائل الإعلام نحو شركتك الناشئة؟ المصدر: شترستوك 1689338008
دور الإعلام غدا الآن السطوة النافذة أو السلطة الأولى بعد أن كان السلطة الرابعة (شترستوك)

لقد استلب إعلام الإثارة التشويقي حيزا كبيرا من وقت الناس من أعمارهم وحياتهم الطبيعية -كبارا كانوا أو صغارا- مرغما إياهم على التسمر والتجمد أمام الشاشات الصغيرة الهاتفية والتلفازية ساعات طويلة بصورة مريعة تدعو إلى الإشفاق، فالأطفال لهم نصيب وافر من الغرام بالمثير من الصرعات الإعلامية الموجهة والمغرضة في إطار من اللعب واللهو، والتي هي أصلا بدافع ابتغاء وجه الثراء فقط مهما كان، بغض النظر عن المآلات الآنية والمستقبلية، ويعرف الأطفال توقيت بثها بدقة في التلفاز، ويجيدون مفاتيح ومداخل محركاتها والتفاعل معها عبر الإنترنت إلى حد الإدمان على حساب الصحة والواجبات المدرسية.

وهذا أمر يسبب قلقا بالغا للوالدين والقيمين على التربية والتعليم في كل مكان، ولم تجد الدعوات الوجلة والمناشدات الغيورة على المصلحة العامة -في هذا السبيل- أذنا صاغية وواعية لتدارك الوضع، فالأمور تسير من سيئ إلى أسوأ يوما بعد آخر في ظل صدمة وقلة حيلة الجميع دونما استثناء.

وأخطر ما في هذا تراجع الأخلاق بناء على ذلك لدى الأجيال الحديثة بصورة متزايدة تدعو إلى القلق طبقا للأفكار المبثوثة التي يجزم كثير من المراقبين والمتابعين أنها ملوثة ومغلوطة، إذ تنادي في ما تنادي إلى ضرورة انصهار ثقافات العالم كلها في بوتقة واحدة بحيث يسهل التعامل معها، أي السيطرة عليها وتوجيهها وفقا لسياسة القطب الثقافي الأحادي، لاغية بذلك ثوابت ومعتقدات وعادات وتقاليد الشعوب الأخرى على اختلافها، فلا احترام -مثلا- للوالدين أو للكبار أو للمعلمين إلا قليلا، إذ باتت الأخلاق في الشرق المحافظ تتضاءل، بل وتتلاشى أحيانا أمام هذا السيل العرم.

وعلى سبيل المثال، يقوم الناس في جنوب شرق آسيا بتعظيم الوالدين والإخوة الكبار وكبار السن والمعلمين، والدليل على ذلك القيام بتقبيل أياديهم، والمرأة اليابانية تضرب مثالا رائعا في تقديس الحياة الأسرية وتبجيل الزوج والإخلاص له، فيما في الغرب تتفكك العائلة بشكل مزر وتحتضر الأخلاق والمبادئ، ولا يتبين ذلك تماما إلا لمن عايش القوم عن كثب، وقد شهد بذلك شاهد من أهل الغرب من خلال ما يكتب وينشر.

إن نظريات الثقافة الأحادية التي ينادي بها كثيرون في الغرب هي نظريات استعلائية وفوقية، ولذا تكون غير مستساغة وغير واقعية، وتخلو من الرحمة في كثير من جوانبها، إذ تكون بحاجة إلى أنسنة، أي أن تكون أكثر إنسانية من دم ولحم، وليست ذات قلب من حديد، وهي لا تقيم للآخرين وزنا بحيث تسعى لإقصاء موروثاتهم الثقافية عبر القرون، وتعرف بالثقافة الإحلالية وهي أن تحل ثقافة محل ثقافة أخرى.

ودور الإعلام -الذي غدا الآن السطوة النافذة أو السلطة الأولى بعد أن كان السلطة الرابعة قبل نحو عقدين من الزمان- هو التمكين لذلك من حيث يدري بعض أولي الأمر أو لا يدرون، بحكم التكرار أو الطرق المتواصل على بعض الأحداث والمواضيع، ووفقا لتقديم وتفخيم بعضها على بعض إخبارا وتحليلا -وإن قل شأنها- لحاجة في نفس يعقوب بعد أن يجعلوا من "الحبة قبة" أو من "القبة حبة" تهويلا أو تهميشا، وبالتالي العمل على إبراز وتمكين بعض القيم والرؤى دون سواها ترسيخا لسطوة الأقوى وفضله المزعوم اقتصاديا وتاريخيا وفكريا على الآخرين في ظل انبهار وانسحار الشعوب المستضعفة والمعطَّلة، انسحارها بالكشوفات والإنجازات العلمية في القرنين الماضيين.

يقول ابن خلدون في مقدمته المشهورة: المغلوب مولع بالغالب في زيه ونحلته وسائر عوائده وأحواله.

إن المزاج العام بين ظهرانينا اليوم هو مع القابلية والجاهزية للافتتان بالحضارة الغربية بكليِّتها، ولحدّ الوله والهيام بما طاب منها وما لم يطب، بخيرها وشرها، بحلوها ومرها دون أدنى غربلة أو تمحيص حتى قال أحد التغريبيين "المتأوربين" من الخاضعين والمنتشين بإنجازات غيرهم "علينا أن نأخذ كل ما عند الغربيين -لنلحق بهم- حتى النجاسات التي في بطونهم".

وهذا منتهى الخنوع وغاية الانهزامية، خاصة إذا ما تناهى ذلك إلى الصغار منذ نعومة أظافرهم، حيث يفتقرون إلى الأسس الراسخة بمعرفة قدر وعظمة موروثاتهم وثوابتهم السابقة فضلا والباقية خلودا، يوم كان العالم المعروف حينها يتخبط في ظلام حالك في العصور الوسطى، فيما كان المسلمون رواد العلوم التجريبية بشهادة الثقات من الغربيين والشرقيين على حد سواء.

يقول مسيو أوليري: لو أزيل المسلمون والعرب من التاريخ لتأخرت النهضة الغربية بضعة قرون.

وقد أصاب حجة الأدب العربي الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد عندما قال "إن ما نأخذه من أوروبا بعد ازدهار نهضتها الحديثة إنما هو من باب سداد الديون التي للعرب والمسلمين عليها بما نهلته من المعارف والعلوم الإسلامية قبل أن تعرف أوروبا ما تعرفه الآن".

إن الحقيقة شيء والواقع شيء آخر، إذ لا بد من دراسة متأنية تغوص في أعماق الأعماق لنستجلي الحقيقة دون خلط أو لغط، خاصة في ما يتصل بالإعلام الجارف -وإن تعددت أسماؤه- من غير تثبت أو صدقية يعول عليهما لمجرد حاجة بعض أصحاب صناعة الإعلام إلى المال للاستمرارية والبقاء في العمل بغية الشهرة الآثمة والنجاح الكاذب كما هي الحال عليه عيانا بيانا في دول كثيرة، وهذا الصنيع يغلف بغلاف حرية التعبير والتثقيف والإمتاع حينا، والمكاشفة والاستقصاء بحثا عن إحقاق الحق حينا آخر ولو كان ذلك على حساب مستقبل ومصير شعوب بأكملها.

وهذا موضوع جلل ومتشابك، حيث لا يمكن الإحاطة بجوانبه كلها في هذه العجالة، وسنحاول أن نوفيه حقه غير منقوص -ما أمكن- في جولات قادمات بحول الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.