شعار قسم مدونات

الديمقراطية التونسية في مفترق طرق

الرئيس التونسي قيس سعيد يلقي كلمة خلال احتفال في القصر الرئاسي بالذكرى 66 لتأسيس قوات الأمن الداخلي مصدر الصورة: الصفحة الرسمية للرئاسة التونسية على موقع فيسبوك
الرئيس التونسي قيس سعيد (مواقع التواصل الاجتماعي)

لم تكن تونس فقط الاستثناء الذي أطلق شرارة الربيع العربي حينما فجرت ثورة عارمة اشتعل لهيبها في أغلب البلدان العربية بعد أن أحرق بائع الخضر المتجول أصيل مدينة سيدي بوزيد محمد البوعزيزي نفسه احتجاجا على الظلم والقهر فحسب، بل أرادت تونس أن تكون الاستثناء مجددا في رسم انتقال ديمقراطي سلمي بعيدا عن الانقلابات والثورات المضادة يحمل أحلام شعب تواق للحرية والديمقراطية.

صمد هذا الاستثناء التونسي أمام الأمواج العاتية التي أرادت قلب مركبة الديمقراطية وجعل تونس تغرق مجددا في قاع الاستبداد والظلم، فقد تنوعت معاول الهدم وتبدلت وتلونت فراهنت بعض القوى القديمة التي استفادت من نظام بن علي على قتل التجربة منذ بدايتها رغم أن الثورة لم تنتقم منها، معولة في ذلك على دعم بعض القوى الإقليمية التي تكفر بأي تجربة عربية طامحة لبناء مجتمع ديمقراطي ودولة تحكمها المؤسسات وتخضع لسلطة القانون وليس لشهوات حاكميها.

كادت هذه القوى تيأس من المحاولة بعد أن تشبث التونسيون بالخيار الديمقراطي رغم فشل كل التجارب العربية الأخرى التي سقطت في قبضة الاستبداد والحروب الأهلية والفتن الاجتماعية، إلا أنها غيرت إستراتيجيتها التي اعتمدت على لعب ورقة الديمقراطية لقتلها من الداخل وقد حصل لها ما أرادت يوم 25 يوليو/تموز 2021 حينما أعلن الرئيس قيس سعيد بيانه المشهور الذي ألغى كل المؤسسات الديمقراطية وجعل تونس تدخل تحت حكم الاستثناء والمراسيم.

نجاح وصفة الشعبوية

لم يكن من الهين على القوى المتآمرة على الثورة التونسية أن تعمل بانضباط شديد قرابة 10 سنوات من أجل إجهاض التجربة الديمقراطية وخلط الأوراق بطريقة جديدة تعتمد أساسا على ترذيل كل المؤسسات الديمقراطية وشيطنة الأحزاب والسياسة والسياسيين وتوظيف الإعلام ليلعب دورا في تأزيم الأوضاع وتقديم الوجبات الإعلامية المسمومة التي لا تحمل إلا الحنين إلى ماضي الاستبداد.

لقد أمعنت جيوب الردة إمعانا دقيقا في تشويه الثورة ومكتسباتها مرتكزة على أخطاء الحكام الجدد، واعتمدت عبر قنواتها الإعلامية المأجورة سياسة الهرسلة المتعمدة والمركزة على الشعب التونسي حتى يعلن كفره بالحرية والديمقراطية. كل هذه السمفونية التي تم عزفها بطريقة خبيثة جعلت التونسيين يتخلون شيئا فشيئا عن حلمهم بوطن حر وأصبحوا يبحثون عن المنقذين حتى ولو كانوا أشرارا.

لم يكن قدوم أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد الذي لم يشارك في الثورة ولم يطالب بها وترشحه للانتخابات في وقت فقد فيه التونسيون الثقة في السياسة والسياسيين مجرد مصادفة، خاصة بعد التهليل الكبير الذي لقيه من الإعلام والنخب وانخرط الجميع بقلوبهم البيضاء والسوداء في مشروع هذا الرجل الغامض الذي لم يمتهن السياسة يوما واحدا في حياته. لقد رفع هذا الرجل منذ توليه الحكم شعارات غريبة تستهدف النخبة والمؤسسات وترنو إلى تقويض كل المكتسبات الديمقراطية وصناعة اللعبة من جديد عبر أحلامه وأهوائه الشخصية.

كان للرئيس ما أراد بعد سنتين من توليه للحكم وترذيله لكل الشخصيات الوطنية والمؤسسات الديمقراطية، وأهمها البرلمان الذي حولته سليلة نظام بن علي عبير موسي إلى حلبة مصارعة جعلت التونسيين لم يتشبثوا به يوم أعلن قيس سعيد عن تجميد أعماله في 25 يوليو/تموز 2021. هنا يمكننا إبراز التقاطع الكبير في الأجندات، حيث كانت الشعبوية السلاح الفتاك الذي جعل من تونس مطمعا حقيقيا لأعداء الديمقراطية حتى تعود إلى نادي الاستبداد. بالتالي يمكننا القول إن وصفة الشعبوية وشعاراتها الرنانة لعبت دورا رئيسيا في إيهام الشعب التونسي بأن الديمقراطية فاسدة وأن الحكم الفردي هو طوق النجاة.

ديمقراطية من دون مخالب

رغم ما فجرته الثورة من أحلام وتطلعات شعبية بالقطع مع الماضي الاستبدادي والالتحاق بالشعوب المتقدمة والمتطورة، فإن المراهنة على وعي الشعوب في حماية الديمقراطية كان خيارا طوباويا لم يلامس عدم جاهزية العقل العربي لتقبل فكرة الديمقراطية والتضحية من أجلها. لم يظلم التاريخ النخب السياسية بعد الثورة والتي كانت تعلم جيدا أن أبرز ما يمكن أن يعيق نجاح الثورات هو الثورات المضادة، وأن معاول الهدم تستطيع أن تؤثر في إرادة الشعوب، خاصة إذا كانت تتحكم في قوتها.

لقد شكل التحدي الاقتصادي والاجتماعي المنفذ الأكثر سهولة للانقضاض على الثورة، حيث راهنت عقلية الاستبداد على تردي الأوضاع الاقتصادية وانخفاض المقدرة الشرائية للمواطن التونسي، علاوة على انتشار معدلات الفقر والبطالة مما جعل فكرة الديمقراطية غير جاذبة وغير مقنعة لعموم أبناء الشعب التونسي الذي يعيش تحت القصف الإعلامي المأجور الذي امتهن لطيلة 10 سنوات سياسة التضليل والتشويه المكثف للثورة وقيمها الملهمة.

مع الأسف، لم يستطع الحكام الجدد بعد الثورة إيجاد القواعد القانونية الحقيقية التي تضمن استمرارية المؤسسات الديمقراطية والتي تحفظها من كل إمكانيات الانحراف، ولعل أبرزها خطيئة عدم تركيز المحكمة الدستورية كسلطة هامة قادرة على التحكيم وكبح جماح ممثلي السلطة التنفيذية أو التشريعية عندما يحاولون التلاعب بالديمقراطية ومؤسساتها.

هذا ما جعل الديمقراطية التونسية الناشئة تحارب أعداءها دون مخالب قانونية ودستورية تمكنها من الاستمرار، لكن هذه المقاومة لم تستمر طويلا عندما جاء قيس سعيد لقصر قرطاج واستعمل كل الثغرات والفراغات الدستورية الممكنة وأخضعها لتأويلاته المتعسفة، حتى نصل إلى نتيجة منتظرة وهي حل البرلمان التونسي المنتخب دون سند قانوني حقيقي، وإلغاء مؤسسات رئيسية في الأنظمة الديمقراطية على غرار المجلس الأعلى للقضاء والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.

المعارضة التونسية: استفاقة متأخرة

لم تكن أغلب الأحزاب السياسية التونسية باستثناء حركة النهضة وبعض الشخصيات الوطنية الوازنة واعية بخطورة إجراءات 25 يوليو/تموز 2021 وما يمكن أن تسببه من انحراف بالسلطة قد يؤدي حتما إلى العودة إلى مربع الاستبداد.

لقد سارعت بعض الأحزاب السياسية الانتهازية وبعض الشخصيات الطامعة في بعض المناصب بعد أن أذاقها الشعب الخيبة تلو الأخرى في صناديق الاقتراع إلى التهليل والمباركة بالانفراد الخطير بالسلطة الذي أقدم عليه قيس سعيد واعتبرت أن ما أقدم عليه يأتي في إطار الإجراءات التصحيحية لحماية تونس من كابوس الانهيار.

لا تقبل الحقيقة هنا أن يقع تزييف التاريخ، فهذه القوى قد ساهمت إلى حد كبير في ترذيل الديمقراطية ومؤسساتها وهيأت المناخ لقيس سعيد حتى يختار اللحظة المناسبة للانقضاض على السلطة.

كشفت الساعات الأولى والهزة السياسة التي شهدتها تونس الانتهازية الكبيرة التي تجري في عروق جل النخبة السياسية التي حاولت التموقع والاستفادة من الوضع الجديد، وخاصة بعض الأحزاب الأيديولوجية المتطرفة وبقايا نظام بن علي، غير أن هذه الأحزاب والشخصيات الانتهازية اكتشفت بمرور الوقت أنها لن تذوق من الكعكة شيئا بعد أن تأكدت أن قيس سعيد لا يقبل القسمة إلا مع نفسه ومع طموحاته الشخصية.

لم تتردد بعض الأحزاب التونسية في مراجعة موقفها بعد أن وجدت نفسها على هامش الأحداث ويئست من كل محاولات التقرب من الرئيس الذي يخوض حربا ضد الجميع من أجل المجد الشخصي، فحاولت أن تتأقلم مع المشهد الجديد وتحاول الالتحاق بالقوى الديمقراطية المعارضة، رغم أنه لن يغير من الأمر شيئا بعد أن خسرت مصداقيتها أمام قيس سعيد من جهة ومعارضيه من جهة أخرى.

لا يمكننا ونحن نتحدث عن دور المعارضة التونسية أن نشيد بالدور الكبير الذي تقوم به المبادرة الديمقراطية "مواطنون ضد الانقلاب" التي تضم ثلة من الشخصيات الوطنية الحقوقية والتي عرفت بمعارضتها لنظام بن علي سابقا، والتي وقفت منذ اللحظات الأولى بكل ثبات لتعارض التوجهات الفردية والمشروع الخطير الذي يقوم به قيس سعيد.

لقيت تجربة "مواطنون ضد الانقلاب" اهتماما كبيرا وأقلقت كثيرا الرئيس قيس سعيد، خاصة بعد التحركات الشعبية الضخمة التي تقودها هذه المبادرة بعد انخراط حركة النهضة الكامل في دعمها على المستوى الشعبي والميداني. هنا يمكننا القول إن المعارضة التونسية ورغم تأخر خطواتها فهي بصدد التشكل ككتلة تاريخية جديدة على شاكلة جبهة 18 أكتوبر/تشرين الأول 2005 التي ضمت طيفا سياسيا متنوعا كان أحد الأسباب المباشرة التي أدت إلى استفاقة المعارضة وسقوط نظام بن علي سنة 2011.

يبدو أن المشهد التونسي مازال مفتوحا على كل الاحتمالات، حيث إن إمكانية إنقاذ التجربة الديمقراطية ما زال أمرا متاحا خاصة بعد ما شاهدناه مؤخرا من انسجام في المواقف بين المعارضة التونسية وبزوغ بوادر ذوبان الجليد بينها، مما يعزز إمكانية غلق قوس الانحراف بالسلطة والعودة إلى المسار الدستوري.

أما الاحتمال الأسواء فيظل واردا خاصة بعد تمسك قيس سعيد بإجراء حوار وطني شكلي عبر تغييب الأحزاب وانتقاء الشخصيات، إضافة إلى تلميحه إلى تغيير تركيبة هيئة الانتخابات، مما يفتح الطريق إلى تركيز حكمه الفرد بكافة الأساليب المشروعة وغير المشروعة.

  • فهل مازالت تقاوم زهرة الربيع في تونس؟
  • أم أن العطش سيجعلها تذبل قريبا؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.