شعار قسم مدونات

رمضان والقرآن المتعبَّد بتلاوته

سيدات يقرآن القرآن
لتلاوة القرآن أثر عظيم على نفس المسلم وأجور مضاعفة (غيتي)

يُقبل المسلمون في شهر رمضان المبارك على القرآن الكريم تلاوة وسماعا وتدبرا، ويختمه بعضهم تلاوتا مرة ومرتين أو أكثر لما في هذا الشهر من فضل كبير وعلاقة وطيدة بالقرآن، فهو شهر القرآن وفيه أُنزل على رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.

تناقل المسلمون عبر العصور آثارا ومواقف ثابتة عن الصحابة والسلف الصالح في فضل التعبد بالقرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ورد في مسند أحمد عن عبد الله ابن عباس: "كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أجودَ الناسِ بالخيرِ، وكان أجودَ ما يكون في شهرِ رمضانَ حتى ينسلِخَ، فيأتيه جبريلُ فيعرضُ عليه القرآنَ، فإذا لقِيَه جبريلُ كان رسولُ اللهِ أجودَ بالخيرِ من الرّيحِ المُرسلَة".

ولا شك في أن لتلاوة القرآن الأثر العظيم على نفس المسلم، والأجور في رمضان مضاعفة، ولكن للتدبر أجر أعظم، والوقوف مع آيات القرآن -تعلما وتدبرا- أمرٌ عظيم، فتدبر القرآن من أَجَلّ الأعمال وأفضل العبادات. بل إن من أعظم ما يتقرَّب به العبد إلى الله تعالى من النوافل كثرة تلاوة القرآن، وسماعه بتفكُّر وتدبُّرٍ وتفهُّمٍ، قال خباب بن الأرت لرجل: "تقرَّب إلى الله ما استطعتَ، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيءٍ هو أحبُّ إليه من كلامه" (ابن رجب، جامع العلوم والحكم، ص: 36).

ولما كانت هناك بعض سور القرآن الكريم قد يجد بعض المسلمين صعوبة في تلاوتها أو تدبر معاني آياتها، وقد يبني البعض تصورا معكوسا عن مراد هذه السورة ويتضح لهم أن هذه السورة تتحدث عن آيات أحكام أو فقه الفرائض أو البيوع، فتجدهم عند اختيارهم لبعض السور التي يشعرون بأثر آياتها على قلوبهم يستبعدون تلك السور (سور الأحكام)، وذلك على عكس ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتدبّر معي هذا القول: عن عبد الله بن مسعود قال:

إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها؛

  • "إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما".
  • "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه، نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما".
  • "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء".
  • "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما".
  • وقال تعالى "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما".

بل إن ابن عباس رضي الله عنه قال "ثمان آيات نزلَت في (سورة النساء) هي خيرٌ لهذه الأمَّة مما طلعَت عليه الشمس وغربت"، وذكر من ضمن الثماني آيات الخمس آيات التي ذكرهن ابن مسعود رضوان الله عليه، وقال الخليفة عمر بن الخطاب عن سورة النساء كذلك فيها أخوف آية في القرآن:

﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾

نعم هي أحوال مختلفة مع القرآن، وأحوال أكثر خصوصية مع سورة النساء، فهذه السورة هي سورة العدل والرحمة، خاصة مع الضعفاء، فبعد أن حدّدت سورة البقرة مسؤولية المسلمين في الأرض وعرضت منهج الاستخلاف، جاءت سورة آل عمران لتدّعو إلى الثبات على المنهج القويم وإلى المسؤولية الملقاة على عاتق المؤمنين.

ثم جاءت سورة النساء لتعلمنا أن المستأمن على الأرض لا بد أن يكون على قدر من العدل والرحمة تجاه الضعفاء الذين استؤمنوا عليهم، وكأن الصفة الأولى التي تميّز المسؤولين عن الأرض هي العدل، ولهذا فإن سورة النساء تتحدث عن حقوق الضعفاء في المجتمع، وتركز على حقوق اليتامى والخدم والورثة.

كما تركز بشكل أساسي على النساء لتخبرك أن البداية تكون من أهل بيتك، فلو أن المرء عدل مع زوجته في بيته ورحمها فإنه حتما سيكون مؤهلا للعدل مع بقية الضعفاء. فهي سورة المستضعفين، وقد اختار الله نوعا من أنواع المستضعفين وهم النساء، وكأن الله يخبرك: قبل أن أستأمنك على الأرض، أرني عدلك في بيتك، فلو عدلت وكنت رحيما في بيتك فستكون مستأمنا للعدل في المجتمع، وإن العدل مع النساء في البيوت نموذج يقاس به عدل المسلمين في امتحان الاستخلاف على الأرض.

فكان الصحابة يعلمون ذلك ويفهمون معنى آيات القرآن التي نزلت بلغتهم ولغة قومهم ويفهمون أسرار جمال هذه الآيات، لذا ستجد أن ابن مسعود رضي الله عنه اختار آيات من سورة النساء عندما طلب منه النبي ﷺ أن يتلو عليه القرآن.. فقال ابن مسعود -أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال له النبي "إني أحب أن أسمعه من غيري"، فكان اختيار ابن مسعود أن يقرأ سورة النساء على من أُنزل عليه القرآن فتأثر النبي ﷺ تأثرا شديدا بما قرأه ابن مسعود حتى قاطعه بعد الآية الحادية والأربعين، وقال له حسبك، فنظر إليه ابن مسعود فإذا عيناه تذرفان، لقد بكى النبي ﷺ عندما سمع قول الله ﷻ "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا".

فسورة النساء سورة عظيمة أحبها الصحابة، وبكى النبي ﷺ عند سماع آياتها، فلا تحرم نفسك من حبها وتدبر آياتها:

﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.