شعار قسم مدونات

تساؤلات حول دولة الأندلس وواقع اليوم..

طارق بن زياد.. نبش في لغز المصير المجهول لفاتح الأندلس
ما كانت لتستمر دولة الأندلس قوية بعد أن ضعفت الدولة الإسلامية وتناهشتها الشعبوية والمؤامرات وتكالب أعداؤها عليها من كل جانب (غيتي)

عند الحديث عن الأندلسيين تجد نفسك تتحدث عن شعب كان من أرفع شعوب الأرض حضارة، وأقدرها على الاستمرار وسط كل الظروف السلبية التي فرض الأندلسيون بعضها على أنفسهم، أو فرضها نزاع العروش بينهم، أو جاءت نتيجة تدفق أمم أوروبية من "المسيحيين الورعين المجاهدين" كما سمتهم الكنيسة وقتذاك، أو من المرتزقة الذين أعمت ثروة الأندلس أبصارهم، وحوّل الجشع خوفهم إلى قوة.

ورب قائل يقول إن تناحر الأندلسيين ونزعة حكامهم للاحتفاظ بملكهم -بغض النظر عن السبل- هو السبب في سقوط الأندلس وتبدد شعبها. وقائل آخر يقول إن الأندلس أقامت كيانا غريبا عن محيطه، فكانت جزيرة وسط بحر لم يكن يحتمل دينا غير النصرانية، أو شعبا غير الأوروبيين. وقائل يذهب إلى أن انفصال الأندلس عن الدولة الإسلامية حمل إليها بذور الفناء، أو أن تلك الدولة ما كانت لتستمر قوية بعد أن ضعفت الدولة الإسلامية وتناهشتها الشعبوية والمؤامرات، وتكالب أعداؤها عليها من كل جانب، وربما زعم آخرون أن الأندلسيين أخفقوا لأنهم كانوا مستعمرين، وكان عليهم الجلاء عندما توفر للشمال النصراني العزم على طردهم، أو أن الوجود الإسلامي في شبه جزيرة إيبيريا كان تجربة نمت وتقوت واستمرت وأنجزت، ثم هبطت وخارت قواها عندما تخلت عن الأسس التي قامت عليها.

ولكن، لماذا استمرت السيطرة الإسلامية على الدولة العثمانية والقسطنطينية وزالت عن الأندلس؟ لماذا يكون الجرمان أهل البلاد الأصليين، وهم لم يمكثوا بالأندلس ثلث عمر سيرة الأندلسيين في شبه الجزيرة؟

تلك مجرد أسئلة لن تعيد الأندلس، ولن تلم شمل أهلها، ولكنها تسهم في رسم صورة المأساة التي لم يعرف الوطن العربي مأساة بحجمها من قبل، وقد لا يعرف مأساة مشابهة لو تنبه المخلصون اليوم. واختلاف الأسئلة والإجابات لا ينفي حقيقة واضحة، وهي أن الأندلس العربية الإسلامية تقوضت، كما سبق وتقوضت كل الممالك والإمبراطوريات التي عرفها العالم منذ أقدم العصور، فلم يكن هناك مخطط للفتح العربي، ولم يكن هناك مخطط مسبق لانحساره عن الأندلس أو بلاد فارس، وغيرها من المناطق والأمم التي خضعت في فترة من تاريخها للسلطة العربية الإسلامية، وإذا كانت الإجابة عن سبب الصعود دون غيره صعبة، فإن العثور على إجابة عن سبب الهبوط أكثر صعوبة.

غير أن بعض الشعوب تضع السيف جانبا في مرحلة من مراحل تطورها لتبني الحضارة، وحين يتوقف زخم الاندفاعة الأولى يحدث التوقف ثم الانحسار، فيكثر الفساد، وتسترخي الأجسام والهمم، ويستشري الضعف، وتزداد بساتين النارنج، وهي عند ابن خلدون إحدى سمات الهبوط، وحين تفتقد الحضارة إلى الوقود الذي تحتاج إليه لمتابعة نموها، فإنها تنقلب على ذاتها، وتلتهم نفسها قطعة قطعة، وتعطي أعداءها فرصة النمو وابتلاع ما تبقى منها، ويتعجل هذه النهاية انفراد الحكام بالسلطة واضطهادهم لشعوبهم، فيفقدون مقومات الاستمرار، وينغمسون في الرذيلة والتفسخ.

هذه قصة الأندلس؛ مليئة بأخبار الانتصارات والهزائم، وعظمة الحضارة، وبالعبر والدروس، مليئة بالنور والظلام، بالصلاح والفساد، بالعلم وفي آخرها جهل. علمت الدنيا كلها معنى الحضارة والتنوير والحداثة، حتى ما زال الكل يشهد بمفكريها، ولكم في ابن رشد وابن خلدون مثال، ولكن هي قصة وانتهت، لكنها في الحقيقة ما زال لها فصول، وواقعنا الآن أهم امتداد لفصولها، فإما نسقط كل يوم سقوطا جديدا كسقوط ملوك الطوائف، وإما أن نعتبر ونتعلم، ونأخذ الدرس من أحداث الأندلس بإيجابياتها وسلبياتها، ونكون كعصور بني أمية في الأندلس، وكعبد الرحمن الداخل والمنصور الحاجب، ونبني مثلهم عصرا ذهبيا بعلم وحضارة وقوة سيف، فأرعبوا عدوهم علما وقوة بانتصاراتهم الدائمة عليهم.

هكذا السياسة؛ لا مكان فيها للضعيف ولا للجاهل، وهكذا تكمن قيمة التاريخ؛ فهو يفسر الحاضر، ويتنبأ بالمستقبل إذا وجد أهله من المتأملين والمفكرين فيما وراء الأحداث من أهل التخصص.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.