شعار قسم مدونات

علم الاقتصاد والتحكم في الوعي المجتمعي

blogs اقتصاد

 

عندما أنهى المفكر وعالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة رحمه الله دراسته بكلية لندن للاقتصاد وحصوله على شهادة الدكتوراه، قال له مشرفه إنس ما تعلمته قد يبدو الطلب غريبا، إذ كيف يقضي المرء سنوات عديدة من عمره للحصول على هذه الدرجة ثم يطلب منه مثل هذا الطلب؟ لكن المنجرة فهم جيدا مقصد مشرفه ليصبح في النهاية من كبار المفكرين وعلماء المستقبليات في العالم.

 

في حقيقة الأمر أن ما يتلقاه المرء من الكتب المدرسية والمناهج الدراسية الجامعية تجعله في النهاية حبيسا لهذه الكتب والمناهج والتي يختلط فيها العلم بالأيدولوجيا بشكل عجيب أقصد هنا العلوم الإنسانية والاجتماعية عموما والعلوم الاقتصادية خصوصا، يرى الاقتصادي الروسي فالنتين كاتاسونوف أن علم الاقتصاد كاذب وفاسد ومرتزق، وهو لا يعمل من أجل بلوغ الحقيقة بقدر ما يعمل من أجل الدفاع عن مصالح الممول الرئيسي له (الرأسمالي المالي).

 

إن ما يدعى علم الاقتصاد حسب كتاسونوف ليس سوى علم خاضع لرقابة صارمة من قبل رأس المال المالي منذ زمن قديم وهناك رأي يقول إن علم الاقتصاد ظهر بالتزامن مع ظهور الرأسمالية أي قبل 300- 400 سنة، وأنه لم يضع نصب عينه ولم يكن يمت بصلة للوصول إلى الحقيقة أو حل مشاكل المجتمع منذ البداية، وبعض الباحثين الأكثر احتراسا يقول أن علم الاقتصاد كان في بداياته موضوعيا ومستقلا وأن انحلاله وانحطاطه حدث في وقت لاحق.

في وقت ما قبل حوالي نصف قرن كان (علماء الاقتصاد) قد تم شراؤهم بالجملة وبالمفرق من قبل البنوك وقد خطا أول خطوة في هذا الطريق أولا بنك منهاتن ManhattanBank  الذي اندمج لاحقا مع chaseManhattan  ومن ثم في بنك JPMorgan Chase

مثلما حدث عند التقاء القرنين 19 و20، حين ظهرت مجموعة من علماء الاقتصاد في جامعة شيكاغو بتمويل من آل روكفلر وآل مورغان وغيرهم من حقائب المال، ما عرفت بمدرسة شيكاغو، فحسب تقديرات بعض المؤلفين، لقد قامت وول ستريت باستثمار مليارات الدولارات في مدرسة شيكاغو وذلك بهدف دفعها لأن تصبح ما بات يعرف اليوم mainstream أي التيار المهيمن أو السائد أو المذهب الصحيح الوحيد، فعلى سبيل المثال جاء حوالي نصف تمويل معهد الأبحاث المرموق المكتب الوطني للدراسات الاقتصادية من الشريحة العليا لقائمة فورتش بأغنى 500 شركة، وترك نتيجة اتصاله عن قرب بالمجتمع الأكاديمي، تأثيرا بالغ الأهمية على طرق التفكير السائدة في أقسام علم الاقتصاد وكليات الأعمال في جامعات البحث الرئيسة في الولايات المتحدة.

 

مع التمويل السخي الذي قدمه أفراد أثرياء مثل جوزف كورز، الذي أصبح فيما بعد عضوا في مطبخ إدارة ريغان، غمر الأسواق فيض من المنشورات والكتب التي تعتنق العقائد الليبرالية الجديدة وعبر تأثيرها المتعاظم في المؤسسات الأكاديمية، خصوصا في جامعة شيكاغو حيث كان ملتون فريدمان الشخصية المهيمنة، حظيت اللبرالية الجديدة باحترام اكاديمي واسع بعد منح فون هايك جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1974، وبعده ملتون فريدمان سنة 1976، وهنا تجدر الإشارة إلى أمر مهم وخطير ، فعلى الرغم من أن لهذه الجائزة من هالة العظمة المحيطة باسم نوبل، فلا علاقة لها بباقي جوائز نوبل التي توزعها الأكاديمية السويدية، بل تقع تحت السيطرة المحكمة لنخبة أصحاب البنوك السويديين.

 

يرى الاقتصادي ألكساندر ليجافا أن الانحراف والانحطاط الأخلاقي في علم الاقتصاد إنما حدث في وقت متأخر أكثر، وتحديدا خلال نصف قرن فقط، في وقت ما قبل حوالي نصف قرن كان (علماء الاقتصاد) قد تم شراؤهم بالجملة وبالمفرق من قبل البنوك وقد خطا أول خطوة في هذا الطريق أولا بنك منهاتن ManhattanBank  الذي اندمج لاحقا مع chaseManhattan  ومن ثم في بنك JPMorgan Chase، إذ قام البنك إياه بتأسيس كرسي الاقتصاد لصالح جون كينيث غالبرايث في جامعة هارفارد، الذي ذهب للتأكيد على أنه في حال منح المصرفيون الحق على أسس قانونية بتزوير العملة يقصد بذلك إصدار عملة غير مدعومة أو غير مغطاة، فإن هذا سوف يمهد الطريق نحو ازدهار المجتمع ككل، لم يكن لدى هارفارد في تلك الفترة رغبة قوية بقبول غالبرايت للعمل فيها على حسابه، وإذ ببنك مانهاتن يأتي ويلوح بأمواله أمام أنف إدارة الجامعة، وهكذا تم شراء هؤلاء، بهذه الطريقة السهلة والخالية من التكلف جرى فيما بعد شراء كليات الاقتصاد في جميع الجامعات والمدارس الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

ما كتبه ليجافا عن علم الاقتصاد عبارة عن مرحلة أخيرة، من عملية كانت قد بدأت منذ زمن بعيد بقصد إنشاء منظومة تحكم بالوعي الاقتصادي للمجتمع لما فيه مصلحة المرابين العالمين، تلك المنظومة التي بسطت سيطرتها الصارمة على المجتمع تتضمن العناصر الهامة التالية علم الاقتصاد الذي يقوم باستنباط النظريات الاقتصادية المناسبة والضرورية للمرابين، مؤسسات التعليم العالي التي تشرف وتنفذ التنوير الاقتصادي للأجيال المقبلة على الحياة، كما أنها تؤمن الدراسة المعمقة للنظريات الاقتصادية، وسائل الإعلام الجماهيري من راديو وتلفزيون وجرائد ومجلات ودور نشر وانترنت التي تقوم بتشكيل الوعي الاقتصادي لكافة السكان بمن فيهم الرضع وتلامذة المدراس، وربات البيوت والعاطلين من العمل والاكاديميين وعمال النظافة ورجال الأمن .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.