شعار قسم مدونات

ماذا لو تزوجت ليلى بمجنونها!

blogs مرأة

حين تقدم الخطيبان "قيس بن الملوح"، و"ورد بن محمد العُقيلي" لطلب يد "ليلى"، قال أهلها نحن مخيّروها بينكما، فمن اختارت تزوجته، ثم دخلوا إليها فقالوا: والله لئن لم تختار وردًا لنمثلنّ بك، فاختارت وردًا. هكذا تزوجت ليلى ورحلت مع زوجها إلى الطائف، ومع رحيلها بدأت من وادي الحجاز في شبه الجزيرة العربية رحلة عذاب "قيس ابن الملوح" الأدبية المغمورة بالحب، الممزوجة بعبق الصحراء، ولوعة الفؤاد مع نسيم الاشتياق الجاف، وبعض الذكريات الخجولة.

انه مجنون ليلى، وما هو بمجنون، ولكن ظلم بني القربى حال دون زواجه من العامرية ابنة عمه ليلى، حبيبته وصديقة طفولته، إنه رجل البادية ابن نجد الذي تحول من رجل عادي إلى معشوق متيم، لاغياً حياته وعقله، هام قيس على وجهه في البراري والقفار ينشد الشّعر والقصيد، ويأنس بالوحوش، ويتغنّى بحبّه العذريّ، فيُرى حيناً في الشّام، وحيناً في نجد، وحيناً في أطراف الحجاز، إلى أن وُجد ملقًى بين الأحجار وهو ميّت.

اعتبر "طه حسين" أن "قيس بن الملوح" شخصية خيالية من نسج قصص الأدباء وكان هذا واضحاً في كتابه "حديث الأربعاء" حيث شكك في أن مجنون ليلى كان شخصاً له كيان ووجود حقيقي

استطاع قيس أن يتربع على عرش الشعر العذري العربي، حيث حفرت كلماته في ذاكرة التاريخ وعاش شعره مئات السنين، لم يدرك ذلك المعزول في الصحراء باكياً مناجياً حبيبته أن صدى شعره سيصل للملايين وتدرسه أجيالا بعده، بل سيتخطى حدود الجزيرة العربية ليصل إلى العالمية. حيث كان لمجنون ليلى تأثير في الأدب الفارسي، فكانت قصته إحدى القصص الخمسة لـ بنج غنج أي كتاب الكنوز الخمسة للشاعر الفارسي نظامي كنجوي. كما أنها أثرت في الأدبين التركي والهندي ومنه إلى الأدب الأردوي.

لم تدرك ليلى أنها ستحظى يوما على كم كبير من "الحاسدات" في زمن شاع فيه الخذلان، فالنساء اليوم يحسدون ليلى على وفاء رجل مات بحبها حرفياً، فمن منا لم يشعر بمأساته؟ وتمنى لو عادت ليلى قبل موته. لم يستطع قيس مجابهة عادات ما أنزل الله بها من سلطان، هي عادات جاهلية خرجت من البادية، ولعل قساوة الصحراء لم ترحم قلب ابن نجد، بل حطّت رحالها في عقول ساكينيها، وقلوبهم أيضاً، فالعادات والتقاليد لا تُكسر ولو على جثة قيس وغيره. فهل يجوز تزويج العاشقين؟ وأي عار أن يتزوج المحبوب محبوبته، في بادية أحرقت شمسها قلوباً، وانشدت شعراً على جثث العاشقين!

بالعودة إلى لحظة اختيار الخطيب المناسب لليلى، ماذا لو أعطيت حرية الاختيار واختارت قيس؟ ثم تزوجا ببساطة! هل سينشد قيس الشعر لها وينظم الأبيات ويهيم على وجهه؟ هل فعلاً سيعترف بجنونه حين قال: قالوا …"جننتَ بمن تهوى، فقلت لهم مالذة العيش إلا للمجانين". بالطبع لا!! سوف يهنىء قيس بحياة هادئة وينجب عدد لا بأس به من الأطفال.. فلا ألم يستفز كلماته ولا عشق ينظم شعره، والأهم من هذا لن يكن لقيس وجود في دنيا الأدب والشعر، ولن يُلهم أجيالاً من الأدباء والفنانين. إن جوهر الكلام و فن الشعر ساقته لوعة قيس، فقساوة البادية وجنون ابن الملوح زرعت في عبق الصحراء، لتثمر أجمل ابيات الغزل العذري.

ظهر مجنون ليلى مرة، بعد أن أمسك جبران خليل جبران ريشته، ورسم بخطوط سوداء متبعثرة وجه قيس الحزين. هي رسمة ربما وجد فيها جبران ما يجمعه بهذا الشاعر المتيم المعذب، تظهر اللوحة جانب من وجه ابن الملوح مغمض العينين. تضفي اللوحة عليك شعور حزين أكثر من أن تعطي للناظر ملامح و تفاصيل، فجبران خليل جبران الذي عاش حياة صعبة بين مرض، وفراق، وهجرة، وجد ما يجمعه بذلك الشاعر العربي وهو "الألم". فحتى في العصر الحديث شاء القدر أن لا يجمع المحبوبين "جبران" و"مي زيادة"، فلم يلتقيا سوى عبر كلمات في رسائل أدبية. ورغم أن شخصية ابن الملوح قد تغلغلت في الوجدان العربي والثقافة العربية، إلا أنها أيضاً قد انفتحت باتجاه دلالات تفوق حقيقتها الأساسية لو أنها كانت ذات تاريخ واقعي!

حيث اعتبر "طه حسين" أن "قيس بن الملوح" شخصية خيالية من نسج قصص الأدباء وكان هذا واضحاً في كتابه "حديث الأربعاء" حيث شكك في أن مجنون ليلى كان شخصاً له كيان ووجود حقيقي. ويرى أنه من اختراع الرواة الذين نسجوا حوله القصص والحكايات لتوصيل رسائل ذات معانٍ أو مغازٍ بعينها.

يهدينا الألم أحياناً فرصة بديعة للتعبير عن ذواتنا، فكلما نخرت الحياة قسوة في قلوبنا، حصدنا منها إبداعاً وجمالا، هي ظاهرة تستفز الشاعر ليخرج أجمل ما في ثناياه، فيصبح معلماً وأستاذاً بعد أن عملت الدنيا على صقله، واشبعه الدهر ألماً وانكساراً. تماماً كالبركان المتدفق ناراً الذي يتحول مع مرور الزمن إلى جواهر وكنوز، وسواء كان مجنون ليلى خيالياً أم حقيقياً، يبقى قيس قامة في العشق العذري، بعنفوانه وأبياته التي جابت الصحراء وما خلفها، لتلد بعد مخاضٍ طويل أدباً عربياً غنياً بمعاني الحب والوفاء. لذلك عذراً ليلى حمداً أنكِ لم تتزوجِ قيساً!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.