شعار قسم مدونات

بيدي لا بيد عمرو

blogs تأمل

أتذكر في صغري عندما انتقلنا إلى منزلنا الجديد انطلقت إلى شرفة المنزل لأرى الناس والأشياء لأول مرة من الطابق السابع، وهل تختلف الرؤية عن الطابق الثاني؟! وبالفعل تشبثت بالسور جيداً وقفزت قفزة عالية حتى أتمكن من الرؤية، لكن للأسف خانتني يداي الصغيرة وتخاذلت كفوفي المسكينة المتعرقة الممسكة بالسور لأصبح على وشك السقوط كنت على حافة الهاوية بين الحياة والموت، لم أملك الوقت لأحاول النجاة، كنت اتنفس بسرعة عالية، أحسست أن الأكسجين الموجود في الهواء لم يكفيني، ظللت هكذا مُعلقة في الهواء لمدة تزيد عن العشر دقائق وأنا أقاوم السقوط دون أن أزعج أحداً، كنت أتأمل لو يأتي أحد لينقذني. لكن القدر صدمني وأتى ذلك الشخص، وبدلاً من شكره على ما قام به صرخت بوجهه قائلة "بربك ماذا فعلت، هل أبدو لك كشخص ينتظر النجدة من أحد!، كنت سأقوم بإنقاذ نفسي بنفسي!

   

لطالما كنت أمقت كوني فتاة.. كوني فتاة يعني أن أكن ضعيفة أمام الكثير من الأمور وكوني حساسة جداً يعني ما هو أكثر من لفظ "عاجزة"، ولكن خذ هذه الصفة الوحيدة مني وستأخذ جوهر ما يجعلني أنا فعلاً، ستأخذ ضميري، وتعاطفي، وحدسي، تقديري لكل الأمور الصغيرة، وحياتي الداخلية الصاخبة، ووعيي العميق بألم الآخرين، وانتكاساتهم، ولأني رأيت الكثير من نماذج الظلم أمام عيني، عرفت أن لا أحد سيعرُج في مشيته فقط كون قدمي منكسرة وتيقنت أن العالم ليس بذلك السوء الذي يخطر ببالي بل هو أكثر رعباً مما تخيلت، أكثر رعباً من الظلمات والبنايات المهجورة والأنفس المتقطعة. كل الإشارات موجودة حتى تضيع، كل اللافتات موضوعة حتى تضل، لتأخذ رحلة ليست برحلتك، لتنتهي بمقصد ليس مقصدك أو لتظل عالقاً في متاهة الممرات، ولا أعتقد أن هناك ما هو أكثر رعباً من أنك لا تأمن الجالس الآن بجوارك، وماذا سيفعل بك بعد دقيقة.

  

هكذا الواقع دائماً ما يتحدى أخلاقنا ومثاليتنا، إخلاص مساعينا للحقيقة والصلاح والجمال، لينتهي بنا المطاف محاولين الحفاظ على أخر جزء من إنسانيتنا بداخلنا

شظايا الاحزان التي تركتها الأيام بداخلي تحرقني فلا أنا منتزعها ولا هي مضمحلة، لا أنا لدي القدرة على المضي قدماً ونسيانها، ولا لدي القدرة على الرجوع والانتقام لها، أعلم جيداً انني لأصبح ما أصبحتُ عليه الآن كان على أن أمر بتلكَ التجارب التي وقعت علي، لكن صدقني الأمر بالنسبة لي لم يكن يتطلب كل ذلك الألم لأصل إلى ما وصلتُ إليه، في الحقيقة لم أنتبه قط إلى أنني ما زلت ثابتة متجمدة، لم أتقدم! لم أتحرك. قد أكون قد تلقيت الضربات بالفعل وواجهت الصعاب، لكني لم أتلقى العبر لم أتعلم شيئاً. بنظرة واحدة للوراء عرفت أني بخيباتي العظيمة طالت رحلتي، فالمسافة تتضاعف كلما طال ثباتك، وطريق العودة دائماً أقصر.

   

لستُ ممتنة لهؤلاء العابرين الذين أهدوني مع تلك الدروس القيمة ألماً نهش داخل روحي إلى ان ثقبها، لستُ ممتنة لتلك الظروف القاسية التي جعلت مني شخصاً آخر إلى أن نسيتُ كيف كنتُ مسبقاً، تلك التجارب إن كانت أعطتني كثير فقد أخذت مني الأكثر، لم نعد طاهرين كما كُنا، لم نعد نستطيع أن نري الجمال بالآخرين فالقبح الذي مَررنا به جعلنا نضعه نصب أعيننا، أُثقلنا بأعباء جعلت جسدنا كلما حاول الطيران شُد إلى الأرض من جديد بأحماله.

      

أنا خير من يقتص من نفسه خوفاً من أن يُفعل هذا به. خير من ينسحب خوفاً من أن يٌترك، وخير من يُفسد ما يملكه ولا يُمكن الآخرين منه، خير من يتظاهر بالامبالاة والقوة كي لا يُستاهن به، خير من يفعل لكرامته ما يودي لنهايته، من لا يهمه الهزيمة أو الانتصار فقط بشرط ألا ينتصر أحد عليه، لا أحد يفهم ولا أظن الأمر قابلاً للشرح، إنها مأساة الذي يركض بكامل لهفته تجاه الآخرين ثم يعود بخيبة وحسرة، يعود خاوي اليدين حزيناً. أعرفُ الآن، الآن وحسب، معنى أن يكون الإنسان مهزومًا، ومعني أن يحملَ هزائمَه معه أينما ذهب، في مواجهة كل هذه الانتكاسات ماذا بوسعنا أن نفعل! نبكي؟! بكينا.

   

بكينا البكاء كله حتى لم يتبق لنا بكاء للصدمات التي سنتعرض لها فيما بعد، كنا نبكي ونبكي ونبكي بمفردنا، ثم نخرج لنساند كل الباكين.. وليشهد الله أننا لا نقاوم الا أملا فيه، هذا العالم ممرض جداً ومؤسف للغاية أن تكافح لتستمر ولا تتلوث أن تظل بوجهٍ واحدٍ ولا تتلون، الحياة تدور والأعوام تصير دهور لتثبت لي أن هؤلاء الذين يبوحون بمخاوفهم يحاربهم الناس بها، ورغم أني أعرفُ جيدًا أن كل الأيادي التي تمتدّ إلى لا تَقصد إلّا الأذى، إلا أن محاولاتي دائمة لإقناع نفسي رغم أنفي بنظرية "أن سيادة الشر لا تعني أبداً انعدم الخير"، كالذي غرق مئة مرة ثم يُطلب منه الإبحار مجدداً! لقد نهبوا طمأنينته ولعله لا يستطيع العيش طويلًا بما يكفي للتحقق من صحة هذه النظرية، في هذه المعارك التي تفتقد للشرف لا يُعد الانسحاب هزيمة. ورغم الإخفاقات يحق لنا أن نظل أبطالا، يحق لنا أن نظل أطفالا وإلى الأبد، والمجد لنا وإن هزمنا.

    

هكذا الواقع دائماً ما يتحدى أخلاقنا ومثاليتنا، إخلاص مساعينا للحقيقة والصلاح والجمال، لينتهي بنا المطاف محاولين الحفاظ على أخر جزء من إنسانيتنا بداخلنا، لذا توقف عن محاولاتك في أن تكن شخصاً مثالياً للجميع، ليس عليك أن تكن هذا الشخص المثالي لأجل أي أحد.. فقط خذ هذه اللحظة واجعلها مثالية لنفسك.. فهمتُ الآن وأخيراً بعد كل تلك الحروب الدامية عن ماذا تدور كل هذه الحياة السخيفة، أنه فقدان كل شيء وكل قيمة، لذا لا تنس "لا تمت قبل موتك".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.