شعار قسم مدونات

دفاعا عن فلسفة القانون.. تجاوزا للسلفية القانونية

blogs - قضاء

ظهر في كليات الحقوق تيار معارض لكل تجديد يحصل في المعرفة القانونية، دافعا هذا التجديد بكل الوسائل غير العلمية المتاحة لديه، بل إنه يرى أن لا اتصال بين الفلسفة والقانون، حيث إن مهمة رجل القانون حسب زعمهم لا تعدو أن تكون تلقي النصوص القانونية كما هي، فينحني لهذا النص على حسب تعبير المفكر القانوني الفرنسي ليون دوغي، لكن هذه المسلمة سرعان ما أثبت الزمن عجزه أصحابها على الإتيان بدليل يدعم مسلمتهم، وسأحاول أن أعترض على هذه المسلمة المتهاوية من خلال الآتي:

 

– أن التفكير عملية عقلية غير مخصوصة بالفلاسفة، ولو كانت كذلك لما كانت الفلسفة أم العلوم، ولما كان التفكير عملية إنسانية عامة لا خاصة، جاز للجميع أن يستعمل هذه الآلية الإنسانية من خلال مناهج عامة أو خاصة (مناهج خاصة بالمجال موضوع التفكير)، يقول رجل المنطق حمو النقاري: ب"… إن التفلسف، من حيث روحه، يمارسه كل العقلاء…" روح التفلسف، المؤسسة العربية للفكر والابداع، بيروت، ط 1، 2017، ص. 105.

 

– أنه لما كان التفكير عملية إنسانية يمارسه من حيث المبدأ كل العقلاء، جاز لرجل القانون أن يفكر في قضاياه القانونية، وهي عملية ليست بجديدة عن العقل القانوني، فلو اطلع المرء على ما ينتج من أبحاث في كليات الحقوق المعروفة عالميا سيكتشف محاولات عديدة تساهم في التقريب بين القانون بوصفه نصوصا واحكاما معيارية والمجال العام للعلوم الانسانية والوسائل المنطقية الحديثة.

 

– أن تاريخ كليات الحقوق عالميا اثبت وجود رجال قانون انطلقوا من النص بوصفه مجالا خاصا الى التفكير القانوني بوصفه مجالا مشتركا بين القانون والفلسفة والاجتماعيات، يمكن ان نعطي امثلة لهؤلاء الذي عدوا مفكرين في القضايا القانونية، مستفيدين من الفلسفة ومن مناهجها دون أن يحصلوا شواهد شكلية في تخصص الفلسفة، كما هو الحال بالنسبة للمفكر القانوني الكبير ماكس فيبر الذي عد بعد ذلك اهم علماء الاجتماع في تاريخ الاجتماعيات، ثم إن استاذ فرنسيا اسمه الآن سوبيو طور ابحاثه حول قانون الشغل ليشتغل بعد ذلك في أنثروبولوجيا القانون، والبحث عن الإنسية القانونية، كما أنه بحث في مسائل الدولة الاجتماعية في معهد كوليج دوفرونس وهو معهد لا مجال فيه للإبحاث الشكلية التي تنتجها كلياتنا بالمغرب، وهنالك نماذج أخرى كانطوانيت روفورا التي طورت أبحاثها حول القانون والليبرالية المراقبة في مجالي علم الجينات والتكنولوجيا.

 

كيف لا يتقبل المرء "قانونيا مفكرا"، مشتغلا بآليات ومقتضيات التفلسف في النصوص القانونية وما تقتضيه الممارسة، له مجاله التداولي الخاص، وليس كاشتغال الفيلسوف بالفلسفة

كما أن فيلسوفا إيطاليا معاصرا اسمه جورجيو اغامبين انتقل من تخصصه القانوني إلى الفلسفة السياسية وفلسفة الجمال، وقد سبق له أن تحدث عن التفكير القانوني المُتطلب لمواجهة أعطاب الحداثة، من خلال التحرير من الاستعمالات القانونية القديمة: "… سيأتي يوم تلعب فيه الإنسانية بالقانون مثل أطفال يلعبون بأشياء متعطلة ومهملة ليس بغرض إعادتها إلى استخدامها التقليدي، بل لتحريرها تماما ونهائيا من هذا الاستخدام. (…) ستنصرف مهمة الدراسة أو اللعب هذه الى تحرير القانون. ويمثل اللعب الدراسي الطريق التي تتيح الوصول إلى تلك العدالة …"

 

– أنه لما كان للفيلسوف الحق في التفكير الفلسفي-القانوني، ومن تم العمل على تقديم أبحاث مفصولة عن خصوصيات المجال القانوني، وكما هو الحال أيضا للاجتماعي لما يضع خلاصته العامة حول القانون، والتي لا تراعي خصوصية المجال القانوني، فإنه جاز للقانوني تقريب النظر السوسيولوجي والفلسفي الى مجاله القانوني محاولا بذلك تحليل النصوص القانونية داخليا من خلال مقاربات خارجية مستعينا بالوسائل التي تضعها الفلسفة او أي علم تكاملي مع القانون، ولقد استعمل هذا التقريب القانوني الأكاديمي الإسرائيلي جاي بيخور لما حاول تحليل نصوص القانون المدني المصري الذي أعدته لجنة السنهوري والكتاب بعنوان :"مدونة السنهوري القانونية: نشوء القانوني المدني العربي" وهو كتاب صدر عن دار نشر إنجليزية وتم ترجمته إلى العربية من قبل الشبكة العربية، وحيث إن صاحب الكتاب أعلن عن عقم المقاربة السوسيولوجية الخارجية للقانون من خلال النظر إليه بوصفه نسقا من الظواهر مبتعدا عن الاشكالات الداخلية وقد نقد بذلك بعض مناهج الأنثروبولوجيين والسوسيولوجيين الذين يفصلون القانون عن خصوصياته، وبالتالي قام بتحليل مواد القانون المدني من خلال مقاربة غائية وسوسيولوجية أي البحث في الإشكالات الاجتماعية التي جعلت تلك النصوص محل مصادقة من قبل البرلمان المصري.

 

لقد حاول أن يفسر بمقاربة سوسيولوجية وبمنطق داخلي المواد الجديدة المنظمة للعدالة العقدية والملكية وتوجهات المشرع نحو المرونة الاجتماعية في مواد القانون المدني المصري، ويمكن الاستدلال في نفس الاتجاه برأي الأستاذ روجير كوتريل عالم الاجتماعيات القانونية حيث قال : " … يمكن الجمع بين النظرات العديدة إلى التحليل القانوني – والتي يمكن تصنيفها بوصفها نظرات اجتماعية بالمعنى الأشمل- فقط من خلال ابتعادها الذاتي المتعمد على وجهة النظر المهنية التي ينتهجها المحامون أو رجال القانون، وهو أمر متضمن في الهدف الذي تسعى إليه النظرية القانونية التجريبية التي تنادي بأن القانون عادة ما ينظر إليه من "الخارج"؛ ومن وجهة نظر الملاحظ للهيئات القانونية، من حيث المذهب والسلوك، (…) (و) الهدف الموحد لدى جميع التحليلات الاجتماعية للقانون هو محاولة علاج القصور المفترض في التحليل المذهبي الذي ينتهجه رجال القانون لدى تحليله…"

 

– ثم إن التفكير القانوني-الداخلي في القضايا القانونية، وتدريب الطلبة على التفكير في النصوص القانونية سيمكن من جعل الممارسة القانونية تنضبط للمناهج العقلية في تفسير وتأويل النصوص تحقيقا للعدالة، ومن تم يصبح القاضي منقلبا على وضعه الحالي كآلة، وقد تحدث عن هذا جاي بيخور حيث قال: "… إن الهدف الاجتماعي للقانون قد افترض أن منح القاضي لسلطة تقديرية على النحو الذي يضمن تحقق العدالة في المحاكم يزيل أي فجوات بين المجتمع والقانون …

– كما أن التفكير القانوني الخاص يمكّن رجال القانون من الإتصال مع واقعهم الإجتماعي، المفصولين عنه، لقد انتقد استاذ انثروبولوجيا القانون رولانس روزن في جامعة برينستون الانفصال غير منطقي بين رجال القانون بالمغرب والسياق الاجتماعي بمناسبة اعداد بحثه حول انثروبولوجيا القانون والقضاء بالمغرب حيث قال: " … القانون عادة ما ينظر إليه كما لو كان مجالا مستقلا بذاته، يسعى داخله بعض المهنيين المحترفين للسيطرة على ما يجري في دوائره بحيث يكون بعيدا لدرجة ما وبمنأى عن العلاقات الاجتماعية العامة أو السياق الثقافي …"

 

– كما أن حمو النقاري دافع عن التفكير القانوني بوصفه مجالا يتوسل في إشتغالاته بمنطق القانون حيث قال: " … لم يعد بإمكان الفقيه أو القاضي أن يقتصر على مجرد الاستنباط من النصوص الشرعية أو القانون؛ إن عليه أن يرتقي من "النص" إلى "المقصد" الذي قاد إلى صياغة النص وساق إليه، أي إرادة المشرع، ومن ثم كان على الفقيه والقاضي أن يؤول النص تبعا لإرادة المشرع من النص الذي شرع: … إن المعتبر، قبل كل شيء، هو الغاية المتوخاة من التشريع، هو روح النص التشريعي وليس منطوقه والثابت منه لغة …" حمو النقاري، من أجل تجديد النظر في علم أصول الفقه من خلال منطق القانون.

 

– إنه البحث المتجدد عن روح الاشياء دون السقوط في شكليات الحديث، الروح المجددة والروح العادلة، وكما قال حمو النقاري:" "… "الروح" (l esprit) القانونية، باعتبارها مقابلا ل"المنطوق الثابت لغة" القانوني (la lettre)، نوعان:

– روح النص القانوني الواحد (l espri de la loi)؛

– روح النسق القانوني الضّامِّ والجامع لنصوص قانونية متعددة l esprit du droit …" نفس المرجع.

 

– تم كيف لا يتقبل المرء "قانونيا مفكرا"، مشتغلا بآليات ومقتضيات التفلسف في النصوص القانونية وما تقتضيه الممارسة، له مجاله التداولي الخاص، وليس كاشتغال الفيلسوف بالفلسفة، ولكن لا يرفض من جهة أخرى وجود متخصص في الرياضيات أو الفيزياء أو اللغة أو الادب والتراجيديا اأ التاريخ أو الاجتماعيات قد اشتغل بالتفكير الفلسفي خدمة لتخصصه كما هو الحال بالنسبة لبنتراد راسل و انتوني فلو وببيير بورديو – فغنشتاين – نيتشه – عبد الله العروي ، كورت غودل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.