شعار قسم مدونات

"النفوس الميتة".. الرواية التي دمرت صاحبها

blogs النفوس الميتة

"دخلت بوابة فندق، في مدينة (ان ان) الإقليمية عربة صغيرة جميلة من تلك التي يستقلها العزاب، المقدمون المتقاعدون الضباط والإقطاعيون، الذين يملكون قرابة المئة نفس من الفلاحين، وباختصار أولئك الذين يعدون من السادة متوسطي الحال". بهذه العبارات استهل غوغول كلمات رواياته التي استمر في كتابة الجزء الأول منها 8 سنوات أما الجزء الثاني والثالث فلم يبصرا النور واندثرا مع صاحبهما.

يدخل هذه المدينة البعيدة رجل يدعى "تشتيشيكوف" تبدو عليه ملامح الأناقة ناهيك عن التهذيب والرقي في التعامل، ما يلبث حتى يستفسر من الخدم عن المسؤولين الأكثر نفوذاً ومالكي الأراضي الكبار. يزورهم يحادثهم و يذيقهم من طرف اللسان حلاوة، حتى أنه يستصغر نفسه أمامهم لكسب رضاهم ولإشباع غرورهم. وسرعان ما يحبه الجميع بعد أن يصنع لنفسه سمعة طيبة ويجعلوه مثلاً يحتذى به، حتى القارىء ذاته ينخدع من قبل بطل الرواية، ولكن بالطبع هناك أمر يخفيه هذا الرجل ويبحث عنه داخل بيوت الأغنياء ألا وهو "نفوس ميتة"!!

حتى "النفوس الميتة" الذي دار "تشيتشكوف" أنحاء روسيا لشراءها لم يقصد بها "الأموات" أو من فقد حياته، بل قصد أيضًا أناس يتنفسون على الأرض ولكن نفوسهم ميتة لا يشعرون لا يفكرون، يسودهم حب المال والتعجرف

الرواية أو القصيدة كما سماها غوغول تدور أحداثها في القرن التاسع عشر في روسيا القيصرية قبل تحرير الأقنان سنة 1861م حيث المكانة الاجتماعية لملاك الأراضي كانت تأتي من عدد «الأنفس» أو الأقنان لديهم. وكان مُلاك الأراضي مجبرين على دفع ضريبة عن كل نفس، رغم احتمال وفاة بعضهم، حتى قدوم التعداد السكاني التالي. ويكتشف أحد موظفي الدولة فرصة للثراء عبر شراء «الأنفس الميتة» بأسعار زهيدة. وحول هذه الخطة تدور قصة بطل الرواية "تشيتشكوف" الذي يجول في أنحاء القرى في روسيا، متنقلاً مع سائقه بعربة مع ثلاثة أحصنة، ناقلاً بانوراما الأرياف من خلال شخصيات محلية يرسمها بطريقة هزلية مبيناً عيوبها. كما يتطرق إلى مايحدث في الدوائر الرسمية من فساد، ورشوة، واختلاسات، إلى جانب وصف دقيق للحياة الريفية البائسة، وقضية مطاردة الأقنان الهاربين من مالكيهم من قبل السلطات بحكم القوانين آنذاك.

السخرية وسيلة للنقد

قدم غوغول شكلاً جديداً من الأدب يميل للطابع الكاريكاتوري الساخر في إبرازه طبيعة النفس البشرية وتناقضاتها بما فيها من جشع وطمع، حب التملك، التعجرف، الخوف، الظلم وفي تصويره لمجتمع مالكي الأراضي يقسم غوغول هؤلاء إلى بدناء سمان بوجوه مستديرة يحتلون المقعد الأمامي دائماً ويجلسون بثبات وثقة أينما كانوا، ويجمعون الثروات الكبرى، فيما النحيف بينهم لن تجد عنده فلاحاً لم يرهنه، ويتحدث بصراحة عن الفساد الذي يغذي طبقة من المسؤولين الحكوميين. يشعر القارىء في هذه الرواية بوجود المؤلف "فعلياً" فالراوي خلق نوع من "النميمة" التي بطبعها تستدعي إحساس القارئ أنه جالس في جلسة مع متحدث لا تنقصه البراعة. لا يمكن لأي قارىء أن يتنبىء بأحداث الرواية أو حتى يخطر بباله ماذا سيحصل في نهاية الصفحة ذاتها، و هذا بحد ذاته براعة لا توصف، يظل كل شيء مشوق ما يشد القارىء، ويميز الرواية.

مشابهة الرواية بالواقع

حملت الرواية رسالة فاضحة وموجعة جداً وهو كيف تصبح معركة الحياة عملية احتكار ومقايضة وحق التصرف في بيع الإنسان، أو انتهاكه، أو قتله تحت وطأة الصمت العميق. تشبه الرواية واقعنا العربي والأفريقي إلى حد بعيد. هو واقع دولا نامية لا يسودها سوى الفساد، والطمع، والجشع، حتى بات الإنسان بلا قيمة أو معنى، فبعض الدول تتاجر بشعوبها وتضحي بهم دون شفقة ولو استطاعت أن تتجار بأمواتهم وتبيعهم لفعلت.

حتى "النفوس الميتة" الذي دار "تشيتشكوف" أنحاء روسيا لشراءها لم يقصد بها "الأموات" أو من فقد حياته، بل قصد أيضًا أناس يتنفسون على الأرض ولكن نفوسهم ميتة لا يشعرون لا يفكرون، يسودهم حب المال والتعجرف، يعيشون في خوف دائم وهاجس من فقدان ممتلكاتهم أو حتى مناصبهم، ولم يجدو سوى الحسد، والأذى، والظلم وسيلة للاستمرار، وتجميع الثروات. هذه النفوس هي أبعد ما تكون عن الحياة وعن السعادة، وهي أقرب للموتى منها للأحياء ولكن لا يعلمون. وأخيرًا هناك تحذير مبطن من شخصيات "تشيتشيكوف" في مجتمعاتنا تلك الشخصيات المخيفة التي تطرب أذانك بالمديح، والكلام الجميل، تبالغ "بالمسايرة" والغزل، تستصغر نفسها لأجلك وتذوب تواضعًا أمامك، بينما ترفعك حدود السماء وترافقك دائماً، هذا الرياء الواضح والتملق، لا يقف خلفه سوى شخصية مخيفة تريد الايقاع بك، حتى و إن لم تعرف الأسباب اجتنبهم واحذرهم سوف تكون الضحية بلا شك.

نهاية غوغول

لقت الرواية نجاحاً باهراً، وبها تربع غوغول على قمة الهرم الأدبي في روسيا. لكن غوغول لم يكن مقتنعاً جداً بالذي كتبه، ثم بدأ النظر للموضوع من منظور شخصي. وبدأت تتسلل إلى رأسه فكرة دينية فحواها أن الرب حباه بموهبة أدبية ليس فقط ليعاقب الفساد عن طريق اضحاك الناس، لكن ليسير بروسيا نحو الطريق الصحيح في عالم يسوده الشر. وعلى هذا الأساس قررغوغول أن يكمل روايته على أنها مثل "كوميديا إلهية" نثرية. ثم دخل غوغول في متاهة دينية ووجد نفسه غير قادرعلى اكمال الرواية.

خلال عشر سنوات كتب غوغول الجزء الثاني من روايته (من 1842م لـ 1852م)، ولم يكن راضياً عن ما كتبه. وظن أن الرب، لسبب ما، لا يريد أن يكون غوغول هو من يرشد الناس لحياة أكثر خيراً. وأن الرب تخلى عنه بالكامل، فأصيب بوسواس ديني وبدأ يكثر صلواته ويبتعد أكثر عن الحياه والمجتمع، أخذ ينتقل من مكان إلى آخر حتى استقر في موسكو، وهناك قابل قسيساً متطرفاً أقنعه بأفكاراً تحريمية غريبة وسيطرعليه، وبقى يأمره بفعل أشياء. منها أن يحرق مخطوط الجزء الثاني من روايته "النفوس الميتة" الذي لم يكن قد نشره بعد، فحرق غوغول المخطوط يوم 24 فبراير/ شباط سنة 1852م، وبعدها بعشر أيام مات نتيجة الصيام المتواصل، وهو مصاب بهلوسه شبه جنونية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.