شعار قسم مدونات

23 يوليو.. كيف ورث العسكر أسرة محمد علي؟!

blogs الضباط الأحرار

ارتبط شهر يوليو دون غيره في ذاكرة المصريين بالانقلابات العسكرية وتغيير نظام الحكم القائم بقوة السلاح، ولأن التاريخ يثبت بين أوراقه أنه من النادر أن يأتي انقلاب عسكري بالخير للشعوب، لهذا يستحق شهر يوليو في تاريخ مصر الجمهوري لقب الشهر الأسود بجدارة؛ نظرًا لما ارتبط به من أحداث درامية وما أحدثه من تغييرات جذرية في بنية الدولة المصرية من حيث الفئات المتنفذة والنظام السياسي، بحيث أصبح هناك خط فاصل تسهل رؤيته بكل وضوح ويمكن معه تقسيم التاريخ المصري منذ منتصف القرن العشرين وحتى يومنا هذا، مصر ما قبل يوليو 1952 وما بعده، وما قبل يوليو 2013 وما بعده.

في مصر العسكرية، هناك ثلاثيات لها الجانب الأكبر في تشكيل البنية الأساسية للدولة وتحديد خطوط وخيوط اللعبة السياسية، والتي يربح العسكر فيها دومًا وهي ثلاثية المال والدين والسياسة، تقابلها ثلاثية أو لنقل تمثلها ثلاثية العسكر والإسلاميين والتيار المدني، والذي يمكن حساب الكنيسة المصرية عليه؛ نظرًا لانحيازها إلى جانبه غالبًا وإلى الجانب العسكري لو اختلف العسكر معه، ربح العسكر الدائم لأي صراع ولو جزئي لحكم مصر الجمهورية يرجع في أغلب الأوقات ليس إلى حنكة وحسن تدبير منهم، بقدر ما هو لعب على التناقضات بين معسكري اليمين واليسار؛ نظرًا لاختلاف رؤية وأيديولوجية كل فريق وعدم التعلم من أخطاء الماضي الحاضر ولا يبدو أن لديهم استعداد لتداركها في المستقبل القريب، المعضلة الكبرى هي بقاء المؤسسة العسكرية الطرف الأقوى في المعادلة بالتزامن مع تهميش مستمر ومتعمد لغالبية الشعب المصري ولديها القدرة على تغيير دفة الواقع السياسي لحصد المكاسب بشتى أنواعها.

في عصر المخلوع مبارك ثم الانقلابي السيسي جرى ربط تيار الإسلام السياسي بشتى مدارسه بالصراع الدموي بين الدولة والجماعة الإسلامية في تسعينيات القرن الماضي، بل ونسب اغتيال الرئيس السادات وعلى غير الحقيقة للإسلاميين

نعم هي دومًا معادلة ثلاثية الأطراف، الأول هو المؤسسة العسكرية التي حلت محل أسرة محمد علي بعد حركة 23 يوليو 1952 وتنحية الملك فاروق ثم مجلس وصاية على الملك الأخير الطفل أحمد فؤاد الثاني حتى عزله وإعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953 وكان الطرف الثاني جماعة الإخوان المسلمين التي خرج من رحمها حرفيًا وفعليًا تنظيم الضباط الأحرار وتوالي الأحداث، حتى تمكن جمال عبد الناصر من الانفراد بالقائمة الكاملة للضباط المنتمين للتنظيم الإسلامي النشأة ثم ضمه لضباط آخرين من خلفيات شتى وكان ما كان من الاستيلاء الكامل على السلطة والانقلاب على الجماعة فيما بعد وإطاحة عبدالناصر بمحمد نجيب وتقاسم السلطة بين أفراد مجلس قيادة الثورة ثم انفراده تمامًا بها وصراعه الدامي مع الإخوان المسلمين حتى وفاته. الطرف الثالث والذي تم إقصاؤه هو التيار المدني المتمثل في حزب الوفد، والذي تم عزل مصطفى النحاس من رئاسة الحكومة في 29 يناير 1952 عقب مجزرة الإسماعيلية التي قام بها الإنجليز ضد الشرطة المصرية وحريق القاهرة، كتبت تلك الحوادث المقدمة الفعلية لحركة يوليو 1952 وإبعاد التيار المدني والملك من معادلة الحكم وقدوم نخبة حاكمة جديدة متمثلة في المؤسسة العسكرية أو ما اصطلح على تسميته «مجلس قيادة الثورة».

في يوليو 2013 تم تكرار الأمر من جديد، حيث استعادت المؤسسة العسكرية زمام السلطة كاملة، بعد انحناء مؤقت لثورة 25 يناير وبغطاء سياسي وشعبي متمثل في جبهة الإنقاذ المصرية، والتي تم تدشينها في 18 نوفمبر 2012 بمقر حزب الوفد وبمشاركة رؤساء أحزاب ليبرالية ويسارية وزعامة شخصيات مثل البرادعي وعمرو موسى وعمرو حمزاوي وآخرين، وتشكلت فعليًا في 22 نوفمبر 2012، بعد يومين من الإعلان الدستوري للرئيس محمد مرسي وتوسعت مكوناتها لتشمل ما يقارب 35 حزباً وحركة سياسية، وكان محمد البرادعي منسقًا عامًا للجبهة، فيما بدا وكأنه انتقام بأثر رجعي من تحالف الجيش مع جماعة الإخوان المسلمين في الخمسينيات، وهو ما نتج عنه الإطاحة بالملكية والأحزاب ذات الطابع الليبرالي واليساري واعتقال غالبية رموزها وحظرها.

دولة يوليو العسكرية بنسختيها القديمة والجديدة دومًا ما كانت تغير صفة الطرف الثالث وتلصق به من الاتهامات والصفات ما يمهد الأرض لقبول طوائف واسعة التنكيل برموزه ومنتسبيه ويكون الطرف الثاني المتفاهم أو المتآمر مع المؤسسة العسكرية بمثابة رأس الحربة لطعنه والتخلص منه أو الحد من قدراته في دائرة لا تنتهي، فالإعلام الرسمي عمل بشكل متواصل على ربط التيار المدني وحقبة الملكية في بوتقة واحدة وإظهار الفساد في العصر الملكي والأحزاب الليبرالية واليسارية، والتي كانت تتبادل رئاسة الحكومة، خاصة في عهد الملك فاروق وكأنهما شركاء في هذا على غير الواقع والحقيقة فقد كانت هناك حياة سياسية حقيقية، وإن كانت تقطعها بين الحين والآخر سلطات الاحتلال الانجليزي، خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية، والتي أعقبتها بسنوات قلائل حركة 23 يوليو 1952.

وفي عصر المخلوع مبارك ثم الانقلابي السيسي جرى ربط تيار الإسلام السياسي بشتى مدارسه بالصراع الدموي بين الدولة والجماعة الإسلامية في تسعينيات القرن الماضي، بل ونسب اغتيال الرئيس السادات وعلى غير الحقيقة للإسلاميين، رغم أن جميع المشاركين الفعليين في الاغتيال من العسكريين، وإعلام الدولة نفسه عمل على شيطنة جماعة الإخوان المسلمين تمهيدًا للانقضاض عليها، وهي الفصيل الأكبر في المعادلة السياسية عقب ثورة يناير 2011، والتي كانت كل المؤشرات تؤكد حتمية فوزها بكافة الاستحقاقات الانتخابية عقب الثورة، وتم هذا دون أي ممانعة من التيار المدني الذي خرج خالي الوفاض تقريبًا من سباق الانتخابات، وتخلى عن أي مشاركة تمت دعوته إليها أو تمثيل تشريعي وسياسي تحصل عليه، وكأن المكسب الأكبر، وهو رهن القرار والسلطة بإرادة الشعب المصري ليس كافيًا لتجنب التيار المدني خطيئة التحالف مع العسكر لإزاحة النظام المنتخب.

ولا تزال خيوط اللعبة كما هي ويتم تكرارها وحصد العسكر لنتائجها مستمرًا وفي نسق عجيب، فكما استخدم عبد الناصر تحالفه مع الإخوان وأطاح بالنظام الملكي والأحزاب الليبرالية واليسارية وانقلب على الجماعة بعدها، وحين خلفه السادات أفرج عن المعتقلين السياسيين وسمح بعودة الإخوان المسلمين للحياة السياسية ثم استعان بالتيار الإسلامي حتى يتمكن من كبح جماح قوى اليسار، وهو ما تم بالفعل، وسيطر نظام السادات على الحياة السياسية في مصر مستغلًا الجميع، وقام في سبتمبر 1981 بحملة الاعتقالات الشهيرة وتم اعتقال المئات من كافة الأطياف السياسية والدينية حين اتفقت على رفض اتفاقية كامب ديفيد، حينها لم يشفع لأي فريق مواقفه السابقة وتم الزج بالجميع خلف قضبان المعتقلات ثم اغتياله بعدها في 6 أكتوبر 1981، وقام مبارك بالإفراج عن المعتقلين في نوفمبر من العام نفسه لتعود اللعبة للتكرار من جديد.

undefined

حين اتفق الجميع قامت ثورة 25 يناير 2011 ثم سمح التيارين الإسلامي والمدني للعسكر بالتلاعب بهم ونقل تفاهمه ثم تحالفه من هذا التيار لذاك حتى نجحوا مجددًا في السيطرة الكاملة على الدولة بعد استنزاف الطرفين لقواهم في الصراع بينهم واعتماد الرئيس المنتخب القادم من قلب تيار الإسلام السياسي-الإخوان المسلمين- على فرضية احترام القوات المسلحة لمكتسبات الثورة وخيارات الشعب وطمع التيار المدني في مساندتها له عبر استدعائها للمشهد السياسي الذي لم تفارقه من الأساس والظن في فرضية انقلابها على النظام المنتخب ثم تسليم أو تقاسم السلطة معه، تلك السلطة التي فشلوا في الوصول إليها عبر الطرق السياسية المشروعة وأدركوا متأخرين أن المؤسسة العسكرية سعت لفرض سيطرتها من جديد وبغطاء شعبي وسياسي من التيار المدني، هذا الغطاء اللازم تواجده حتى يتم نفي صفة الانقلاب العسكري القح أمام العالم الخارجي المتربص بثورات الربيع العربي عن تحرك الجيش لاستعادة السلطة مجددًا وهو ما تم في 3 يوليو 2013.

ثم تكررت المأساة وقام الجنرال الانقلابي عبد الفتاح السيسي بالزج بالجميع ومن مختلف التيارات خلف جدران المعتقلات والتنكيل بكل من يعارضه مهما كان انتماءه السياسي والفكري مع مصادرة وسيطرة كاملة على المجال السياسي والإعلامي وتغول المؤسسة العسكرية في كافة مفاصل الدولة وبوتيرة وعنف لم يسبق لهما مثيل حتى في أحلك فترات الحكم العسكري منذ قيامه وحتى الآن، ليستمر شهر يوليو بالبروز في الذاكرة المصرية كأسوأ شهر في تاريخها الجمهوري ليظهر ويؤكد لجميع القوى السياسية ومن مختلف التيارات أن اختلافها في ما بينها ولجوئها للمؤسسة العسكرية لحسم خلافاتها وصراعاتها مع بعضها البعض هو خيار له نتيجة واحدة مها اختلفت الأسباب والدوافع وتلك النتيجة هي يوليو الأسود الذي أنتج نظام شمولي كانت أولى لبناته في يوليو 1952 وأفرز نظام دموي كانت أولى محطاته في يوليو 2013، استنسخ الدرس وتكررت الأخطاء فهل من متعظ في كافة التيارات السياسية من تلك الدروس والأخطاء ليتم وضع المؤسسة العسكرية في مكانها الطبيعي كحامية للدولة وليست حاكمة لها ضمن منظومة ديمقراطية تتمكن من كسر حلقات يوليو الأسود؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.