شعار قسم مدونات

رمضان في شبه الجزيرة العربية

blogs رمضان

بات الشوق والحنين لقريتي الصغيرة بما احتوت نقطة تفكيري في هذه الآونة، لابتسامات أمي وتراحيبها وكلماتها التي تهدئ في روحي اضطراب الكون، شوقي لجماليات الطبيعة الجبلية الساحرة، لهوائها الأخًاذ وزخات الأمطار التي توحي كأن الطبيعة تربت عليك أن الأمور ستسير بما يسرك!، أمطرت السماء في هذه المدينة الصحراوية، خلا أن المطر هنا خاليا من البهجة والفرح، ممزوج بالشوق والاغتراب، فالهجرة عن الأهل والأحبة يُعِل فيك فرح ما بين يديك.

   

رمضان هذا الشهر الجميل -الذي أقدسه في بيتي- صار بفعل المخاض اليمني عاديا، لا يميزه سوى تطويع النفس لسلطة حب عظيم "الله"، ولا زالت الروح ظمئى لتلك التربية، هذه المرة لم أمارس برنامجي المعتاد، فالتجربة في أرض لم تعرفها تجربة مختلفة، يسبقها الحماس والمغامرة والتطلع للمعرفة، ها نحن نقترب من انتصاف الشهر وبات يتشاركه معي شتات، وألم وطن بات رهينة عند من نناضل لرحيلهم، وها أنا ذا في إحدى المدن الصحراوية، قبل خوضي الصيام هنا خوفني البعض أن الكثير يفطر فيه مضطرا لشدة الرمضاء والقيض والجفاف، إلا أن الأمور تمضي بيسر ولذة.

  

التمشية يا رفيقي هنا تعود بك أشعثا أغبر كمن ذهب لحفر قبر، ترجع والتراب يعتلي شعرك ورموشك وحتى تلك الشُعَيراتُ الصغيرة التي تغطي جلدك

تمضي للسوق محاولا المرور بين أزقة مدينة لازالت ناشئة، فالأرصفة الغائبة تحل مكانها الأتربة الرملية، يأتي المطر فيخمد الجو من عواصفه الرملية، كأن المدينة تحاول أن تغسل ذاتها اليوم هنا. فأمست كما لو كانت فرس نهر يريد أن يبرد جسده المثقل ببركة موحلة، تسير فيها محاولا تخطي الحفر والمطبات في شوارع تراها أشبه بأحواض مائية متعددة يسويها الماء؛ مكونا بحيرة صغيرة، عاكسة لسَفَرَةِ الضوء في الأفق، بتلك الاوقات الليلية. وأنت تمضي متخوفا من الطين والماء مشمرا عن رجليك، متفحصا لمواضعِ أقدامك، محاذيا لتلك الشوارع المهترئة، ينعكس لمعانا خفيفا للسماء لا تفرق فيه بين الحفر المملوءة والطريق المعتادة، وهاك تشهق نفسا صوتيا وسط تفحيط سائق يبللك بصفعة إطاراته للوحل.

 

يأخذني تفكيري مباشرة. أين المطر من تلك الجبال الزراعية التي لا تعرف الرمال وعواصفها. فاذا ما أهدتك السماء هتون غيث، كان كمن يمسح السماء والأجواء بيده؛ ليصفو الجو؛ فيزيدك إبهارا، أين الغيث من قريتي الجميلة. تلك التي رُسمت بإحكام قبل ملايين الأعوام، وسبرت يد الأٌقدار روحي لتتواكب مع الجبال المخملية الخَضِرة، أما هنا. فتضيق الروح في جسدك كالمحبوسة قسرا، وتبقى معلقة كغصة في حلقك، فإن أهدتك السماء لفحة باردة وسط هذه الصحراء، عوضتك قبالها حرًاء وعواصف وقيض، فتقول لرفيقك إذا ما ضقت من كئابة الداخل: هيا لنشتم قليلا من الهواء. ثم تتجولان في الشارع متناغمان وسط البوح سويا. فجأة لا تعرف كيف تسربت إلى فيك (فَمَك) تلك الرمال؟!. تتحدث وحصى تسحق بين سنونك فجأة؟!!

  

التمشية يا رفيقي هنا تعود بك أشعثا أغبر كمن ذهب لحفر قبر، ترجع والتراب يعتلي شعرك ورموشك وحتى تلك الشُعَيراتُ الصغيرة التي تغطي جلدك. تنادي ولا تسمعها لصغرها: هائنذا أدفن حية، لا لوم عليك يا شبه الجزيرة فخصائصك هكذا في الرعونة والقساوة وحبس كل رقة وإحساس، حتى حينما يحاول الجسد أن يفرز الماء من مساماته لتلطيف الجسد من حراءه؛ تحبسينه مولدة كئآبة النفس والخاطر، كم يجب علي أن أروض نفسي على طبيعتك الشاقة وأنا الذي لا أجد مُتَنَفَسِي إلا في الكتابة بشمائلها المرهفة؟ ويكأن البقاء هنا حبس من سجون القدر؟! وليس لي أنا سوى أن أجاريها في مراس صعب لابد من خوضه، على النقيض. في قريتي النائية فالطبيعة تحاول كل يوم أن تغريك بمفاتنها أرضا وهواء وسماء، فأفقها الصباحي يتناغم مع مشاعر البشر ومرضيا لأذواقهم، متحولا بخلفياته الساحرة التي ما تلبث أن تتغير وتبقى مشدوها نحوها. متأملا ومستمتعا بهذا السحر الروحي الكثيف!

  

في أوقات الزوال.. حين تنغمس الشمس خلف جبال الغروب، غالبا ما يكون الإنسان في حالة تشبه الفراق، لحظات ربما لا يعبر عنها إلا بزَفِرةٍ متأنية، غير أنها في شهر رمضان يكون الزوال فرائحيا بنكهة الانتصار الروحي، خلاف لكل أيام العام، أما الزوال وما قبله بهنيهة في تلك المناطق (تعز وإب)، تكون هذه الفسحة الزمنية قد جُعِل فيها البحث عن ضيف رمضاني شيئا لابد منه، فلا تستغرب إن مررت في شوارع هذه المدن وأجبرك أحد لا تعرفه على الإفطار بمعيته، هذه الشمائل العربية المتجذرة وحدها مالا يمكن أن تمحوه السياسات المفروضة.

 

لا يميز هذه الأماكن سوى سلطة الروح في ترويض النفس وتليينها وتسخيرها لتكن كما يريد هو، ومن هنا تنبثق منك قيم الإيثار والتسامح والعفو

على النقيض فالمدن هنا -مدن الصحاري- تفتقد مثل هذه العادات التي باتت مقتصرة على من يعرفونه، وهنا يكمن فارق أخر بين بلادي وهذه الصحاري، أيا جميلتي الغائبة هنا بيئة أقوى من يجيد العيش فيها هي الجِمَال؛ ويمكن للقاطن أن يستمد منها تلك الخصلة(الصبر)، البدر يلوح ليس كما كنا نتسامر عليه عندك بذلك الألق والنضارة، إنما باهت مغبر بالعواصف الرملية الداكنة، لقد اختفت عندي أشياء جميلة أخرى تعودنا عليها سليقة عندك كالإلهام والتأمل والأهل والألفة والسرور.

  

روحيا.. في الحقيقة يوحي لي قلبي أن المرحلة هنا جبرية، فالإلمام في التنوع الروحي رائع، بين ما يعيشه الإنسان من بيئة وأخرى هو ما يجعل في عمر البشر لوحة ثمينة. وما الذي يزين عُمْرَ البشر غير تجاربه الروحية المتعددة؟ وهو ما يزيده مهابة ودهشة كتلك الكتب الأُثرية القديمة.

 

أخيرا. لا يميز هذه الأماكن سوى سلطة الروح في ترويض النفس وتليينها وتسخيرها لتكن كما يريد هو، ومن هنا تنبثق منك قيم الإيثار والتسامح والعفو .إلخ؛ فكل خصال النفس من حب الذات والأنا، تغيض وتنصهر أمام طريق إجباري لا سلطان فيه إلا للروح فتلمس حسا آخر، وتنظر للناس بمساواة إلا من يربو لجوهره، وتبقي القيمة الدائمة التي تمكث فينا هي الحب، أما بلادي فتنوعها سر جمالها أينما حللت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.