شعار قسم مدونات

العلم.. الداء الذي تخشاه إسرائيل!

blogs فلسطين

من يسلكُ طريقَ العلم، يُهديه الله ينبوعًا لا ينضب من خيرٍ وحكمةٍ ونور، فسالكُ طريق العلمِ قريبٌ من ربه، يخشاهُ بحق، فالله في محكم التنزيل أقرّ بذلك حين قال "إنما يخشى الله من عباده العلماء" فهم ورثة الأنبياء الذين لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا بل إنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه منهم واقتدى بنهجهم في تحصيل العلمِ وطلبه والسعي إليه وتحمل مشقته؛ فكأنما أخذ حظًا وافرًا من السمو الفكري والديني والإجتماعي، يُحلق عبر روحه في فضاءاتٍ ساميةٍ من العطاءِ والجمالِ والسلام الأخلاقي، فلا وقتَ لديه للجدال ولا للفسوقِ ولا للرياء، همه أن ينهل من مناهل العلوم، شعاره في ذلك "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون"..!

مخطئٌ من يظنُ أن العلم يُختزلُ في شهادةٍ جامعيةٍ فقط، فهو أرقى من ذلك بكثير، العلمُ هو الإسم المنافي للجهل، الذي يُحتمُ على كلِ متعلمٍ أن يكون مُطبقًا لأخلاق دينه أولاً الذي دعا إلى الريادةِ في كل شيء، وأولى علامات الريادة والنبوغ أن يتوقفَ دومًا عند آيته الكريمة التي قال فيها "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"..!

كلُ الحروب التي شنها الإحتلال الإسرائيلي ضد غزة تعمد فيها وأد المسيرة التعليمية وعلمائها وطلبتها، فقد استهدف المدارس والجامعات في حروبه

فالحرصُ على الحصول على أعلى الدرجات العلمية يجبُ أن يكون الشغل الشاغل للنابغين والطامحين من أبناء الإسلام في كل مكان، فالعلم سلاحُ الأقوياء في مواجهةِ خصومهم الذين يحتلون أراضيهم، ويسعون عبر حروبٍ شتى من النيلِ من عزائمهم، فالتجهيل والحرب النفسية والإشاعات كلها تُهزم أمام العقول الواعية المتعلمة المتفهمة المُبصِرة بحقيقة الصراع، خاصة بالنسبة للشعوب التي ترزح تحت نيران الإحتلال والإضطهاد..

إن فلسطين تستحقُ جيشًا قويًا من المتعلمين والمثقفين، ولا عجبَ أن نجد غزة تحديدًا رغم حصارها وشح إمكاناتها، تُوجه طاقاتِ طلبتها نحو تحصيل العلم، ففيه تُنمي مداركه، وبه تُغذي أرواحهم العطشى لكلِ جديدٍ ومفيد، فقادة المقاومةِ فيها ومن يحتلون أعلى الهرم في كافة الميادين الحياتية والجهادية والسياسية هم من حملة الدرجات العلمية العليا، يتسابقون فيما بينهم على اكتسابِ فنون العلم، تراهم على مقاعد الدراسة وبعد لحظاتٍ يُسددون رميَ سهامهم في إحسانِ أعمالهم وإتقانها على الوجه الذي يُرضي الإله، ويُرضي ضمائرهم وذواتهم..

مخطئٌ من يظنُ أن درب الجهاد والمقاومة يُسْقِطُ عن سالكه حب التعلمِ والإلتحاق بالجامعةِ لاستكمال دراسته، فكلُ هذا لا يشفعُ في ساحاتِ الحضارةِ والتقدم،وهو ما أدركه الفلسطينيون الذين يتباهون بأنهم يحتلون النسبة الأعلى عربيًا في تعليم أبنائهم وبناتهم، حتى اكتظتْ صفوفهم بالخريجين العاطلين عن العمل، ومع هذا فإن شغفهم في التعلم لم ينضب، فمن واقعِ معايشتي لكثيرينٍ منهم يذهبُ المئات من الذين لم يحصلوا على وظيفة عملٍ بعد إلى استكمال تحصيلهم العلمي؛ لنيل درجات الماجستير والدكتوارة في جهدٍ دؤوب يصمدُ أمام كل صعوبات الحياة، فلا راحة في طلب العلم، ولا حياء في الدين ولا حرج من السؤال والمتابعة فيما يخصُ المتعلم واحتياجاته على طريقِ تمهيد الطريق أمامه ليكون نابغًا وخادمًا أمينًا لدينه وأمته..

شغفُ التعلم ليس كمثله شغف، وطلبُ العلم أرقى طلب، ومن لم يذق مرّ التعلم ساعة بقيّ طوال عمره يُصارع مرض الجهل، ليُصبح ضحية وألعوبةً بيدِ خصومه الذين يستغلون ثغراتِ جهله ولا يُوظفونَ طاقاته المُهْدَرَة في أماكنها السويةِ والسليمة.. يحضرني في مجال طلبِ العلم حضرة الأكرم منا جميعًا من أمثال الشهيد المهندس فادي البطش الذي قضى نحبه في ماليزيا وهو المعلم الفلسطيني النجيب صاحب العقل الفذ، الذي أدهش العالم في مسيرته العلمية، وأفزعه حيًا وميتًا، كيف لا وقد تعمد الإحتلال الإسرائيلي قتله واستهدافه في عملية اغتيالٍ بشعةٍ عبر جهاز موساده، فقتل العلماء ديدن بني إسرائيل منذ الأزل، فهم الذين قتلوا الأنبياء من قبل، قتلٌ مدروسٌ ومخطط على طريق إفراغ القضية الفلسطينية من المتعلمين لاسيما أولئك المشهود لهم بالنبوغ منذ نعومةِ أظفارهم..

لم يتعمد الإحتلال الإسرائيلي قتل المتعلمين فقط، بل تعمد أيضًا اعتقالهم عبر عملياتٍ قذرةٍ استهدفتْ عقول بارزين، منهم على سبيل المثال لا الحصر المهندس الكهربائي ضرار أبو سيسي الذي اعتقله جهاز الموساد الإسرائيلي في أوكرانيا، ولا زال حتى اللحظة معتقلاً في سجونِ الإحتلال، حيث جاء اعتقاله نظرًا لنبوغه في مجال الهندسة الكهربائية وسعيه لحل أزمة الكهرباء التي تعانيها غزة المحاصرة..

تعلموا فإن التعلم غذاء المرحلة، إنه القوت الذي لا يجوع صاحبه معه ولا يعرى، إنه الشموخ الذي يتضاعفُ مع تضاعفِ التهام الكتبِ ومراجعةِ أمهاتها، بقدرِ مشقةِ تحصيله

كلُ الحروب التي شنها الإحتلال الإسرائيلي ضد غزة تعمد فيها وأد المسيرة التعليمية وعلمائها وطلبتها، فقد استهدف المدارس والجامعات في حروبه، كما أن أغلب شهداء مسيرة العودة الكبرى هم من طلبة العلم وأهله.. ذلك يُشيرُ على أن استهداف الإحتلال للإنسان الفلسطيني ليس استهدافُا عشوائيًا بل هو استهدافٌ مدروسٌ ومخطط له سلفًا، على طريقِ تحطيمِ كل أسطورةٍ نابغةٍ إما بالقتل والإستهداف المباشر كما حدث مع الشهيد البطش، وإما بالإعتقال كما حدث مع الأسير أبو سيسي وغيره، وإما بالتدمير كما حدث للمؤسسات التعليمية التي دمرتها الطائرات الحربية الإسرائيلية..

من يُريد أن تكون له بصمة واضحة في نصرة القضية الفلسطينية، عليه أن يُصوب عقله صوبَ العلم، لأنه أنجح سلاح في هزيمة الإحتلال الإسرائيلي وأعوانه، فكما أن البطون تجوع فإن الصبر على خواء العقول أمرٌ مخيف لا يجبُ التهاون فيه أو السكوت عنه،من هنا وجبَ الأخذ بأيدي كلِ طلاب العلم عبر مساندتهم معنويًا ومساعدتهم ماديًا في تحصيلهم العلمي، لاسيما في ظل هذه السنوات العجاف التي يشتدُ فيها الحصار على أهل غزة، حيثُ يعجزُ بعض الآباء عن توفير مستحقات الدراسةِ ورسومها لأبنائهم.. لا يجبُ أن يكون هناك عائق أمام طلاب العلم وسالكيه، بل يجبُ العمل على وأد كل العثراتِ قبل أن تتكاثر، لأن عنوان تقدم الشعوب يُقرأ من مستوى تقدمِ المسيرة التعليمية لها، ولا أظن أن أمة لا تقرأ ولا يكترثُ أبناؤها للعلوم ستنتصر على خصومها..

"كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس"، هذا ملخصُ ديننا الإسلامي الحنيف الذي يجزم على أن الإسلام هو الأب الروحي لكلِ نبوغٍ وخير؛ فكيف بالعلم وهو لا يمنحُ متعلمه وطالبه إلا كل رفعةٍ وخير.. فصحةُ العقولِ وما تحمله من علوم، ينعكسُ تلقائيًا على صحةِ الأجسام، فكلٌ يُكملُ الآخر، فكما أن اللياقة البدنية تؤثر على العقل، فإن العلومَ والسعي نحو تعلمها تُغذي العقل؛ فتُعطي الروح هالةً من كبرياءٍ وحيويةٍ ونشاط، وما أجمل همة أهل العلم حين تكسوهم العزة والوقار، وتُكبرهم في أعينِ من يُقابلونهم وتُعطيهم أعمارًا فوق أعمارهم، إنها الحكمة التي يؤتيها الله من يشاء، وإنه العلم من يخصه الله به فقد خصه بالشيء الكثير..

هنيئًا للمتعلمين علمهم، وهنيئًا لمن أدرك قيمة العلم والتعلم، وسعى إليه سعيّ الواثقِ بأن الخلاص من الهموم والأوجاعِ والنقمةِ والداء والفقر والبطالة يكونُ عبر دواءٍ جميلٍ ولذيذٍ ومفيد اسمه دواء العلم والتعلم، دواءٌ يُشْفِي من الوجع ولا يشفى طالبه من حبِ المزيد منه،ليبقى حالُ كل من استلَذ في تحصيله يقول يومًا إثر يوم "هل من مزيد"؟

تعلموا فإن التعلم غذاء المرحلة، إنه القوت الذي لا يجوع صاحبه معه ولا يعرى، إنه الشموخ الذي يتضاعفُ مع تضاعفِ التهام الكتبِ ومراجعةِ أمهاتها، بقدرِ مشقةِ تحصيله، تكونُ عذوبةُ حياة صاحبه؛يكفي أنه يُكدرُ مزاج من يحتله عسكريًا ويُربكُ مخططاته بذكاء عقله ورجاحةِ علمه وتفكيره..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.