شعار قسم مدونات

الاكتئاب.. مرض العباقرة أم مسٌّ شيطاني؟

blogs اكتئاب

ذاك الغول المخيف الذي بات يؤرق الكثيرين، يسجن صاحبه في دوامة من التناقضات، أشكاله عديدة، قد يكون خوفا من شيء مبهم أو خوفا غير منطقي، إرهاق واضطراب في النوم، فقدان للشهية، خمول وكسل، يأس وحزن شديد، مشاكل في التركيز والذاكرة، الابتعاد عن الحياة الاجتماعية، لوم النفس والشعور بضآلتها وغيرها من الأعراض.

  

يعرفه الأطباء النفسيون على أنه خلل في وظائف الدماغ ونواقله الكيميائية، قد تكون أسبابه جينية أو التعرض لضغوطات نفسية واجتماعية كبيرة، لكن تبعاته وخيمة، كأن يصبح الشخص غير قادر على ممارسة نشاطاته اليومية بشكل عادي، أو تطور حالته المرضية وصولا إلى أذية النفس والانتحار في بعض الحالات إذا لم يتلق المريض العلاج اللازم والإحصائيات حسب منظمة الصحة العالمية تقول إن أكثر من 300 مليون شخص حول العالم يعانون من الاكتئاب.

 

عند الدروز ظاهرة ما يعرف بالتقمص والتي يفسرونها بانتقال روح شخص لم تجد السكينة في البيت الآخر بالذهاب إلى روح شخص جديد لا يزال على قيد الحياة لتخبرهم عن حال الميت وما يريد أن يبعثه من أخبار لأحبائه؟

غير أن المشكل يكمن اليوم في نظرة المجتمع إلى هذا الصنف من الأمراض وخاصة مجتمعنا العربي، هو رافض لأي حديث في هذه المواضيع التي تعد تابوهات، فكل ما يمس النفس أو العقل مهما كان صنفه يصنف ضمن مصطلح الجنون! مجتمع يعترف بجميع الأمراض العضوية التي تمس القلب والكبد والكلى وغيرها من الاعضاء ماعدا تلك التي تعتري النفس والعقل! أو ليس العقل كسائر الاعضاء قد يصاب بالعطب أحيانا؟

 

هروبا من كل هذا تختصر شعوبنا العربية والمجتمعات المتخلفة هذا المرض في قولها إن فلانا يعاني مشاكلا روحية كمس من الشيطان أو ما شابه ذلك، فتجد الكثيرين يلجؤون إلى رجال الدين وما يعرف بالرقاة الشرعيين أو ما يعرف ب "الطلبة" في بلاد المغرب العربي لعرض المريض عليهم، فمنهم من يتلو عليه بضع آيات قرآنية لعل الروح الشريرة ستظهر، ومنه من يصف ماء مقروءا وزيوتا للمريض وهناك من مرضى الأنفس والدجالين والمشعوذين الذين يتاجرون بالدين فيهموا على هؤلاء بالعصي واللعب بعقلهم وعقول أقربائهم من خلال ممارسة بعض الطقوس حتى يقع المساكين في شباكهم وتستنزف أموالهم بنية الشفاء المزعوم، غير أن حالاتهم تتطور وتزداد سوءا.

 

وهذا لا يقتصر فقط على المسلمين بل حتى المسيحيون وغيرهم من الطوائف يتشبثون في الكثير من الأحيان بتفسيرات غير منطقية لمشاكل نفسية محضة وكأنها التفسير الوحيد، فقد رأيناهم في أوروبا يجلبون القس لطرد الأرواح الخبيثة والشياطين والبعض الآخر يفضل الذهاب إلى العرافات والمنجمات اللواتي يجنين الكثير من المال مقابل وعود بجلب الحظ وإذهاب الحزن وإبعاد الطاقة السلبية عن المريض والتكهن بالأوقات التي تزول فيها الأعراض.

 

رأينا كذلك عند الدروز ظاهرة ما يعرف بالتقمص والتي يفسرونها بانتقال روح شخص لم تجد السكينة في البيت الآخر بالذهاب إلى روح شخص جديد لا يزال على قيد الحياة لتخبرهم عن حال الميت وما يريد أن يبعثه من أخبار لأحبائه؟ وفي بعض الجزر وعند بعض القبائل في القرى المتخلفة في أفريقيا والأمازون لازال الكثيرون يلجؤون إلى شيخ القبيلة الذي يعالج المرضى النفسيين ببعض الأعشاب والطلاسم لطرد الشياطين والجن وهنالك العديد من الأمثلة.

 

لسنا هنا لنشكك في معتقدات أي أحد فالمشكلة بحد ذاتها ليس لها علاقة بالانتماء الديني وإنما القدرة على ترجيح العقل وتحدي النظرة المجتمعية، في أغلب الأحيان هم أشخاص يعانون نفسيا يتم عرضهم على شيوخ دين وكهنة وسحرة ودجالين رغبة في العلاج، فنجد الانسان في هذه المجتمعات مقيدا ضمن تفسيرات جاهزة تقيه من نظرة المجتمع ووصمه أو وصم أقربائه بالجنون فالتفسير الأقرب إلى أذهانهم نتيجة ترسبات وموروثات فكرية والذي لن يجادلهم فيه احد هي نسب هذه المشاكل إلى الامور الميتافيزيقية، فيغرق ومن حوله في أمور هم في غنى عنها، أليس الاجدر عرضهم على طبيب نفسي باستطاعته أن يمد يد العون ببعض المهدئات النفسية أو جلسات معالجة حسية، لما لا نحاول الارتقاء قليلا بمجتمعاتنا وتغيير هذه النظرة للأمراض النفسية ونقتنع أن هذا لا يدعي إلى الخجل والإحراج وقولبة الأشخاص ضمن فئة معينة.

 

ضاعت مجتمعاتنا في تعريفها للاكتئاب وما شابهه من الأمراض النفسية، كل حسب مرتكزة الفكري بين جنون ومرض روحي وغيرها من التحليلات والتفسيرات العلمية والدينية

الان لو حاولنا أن ننظر لهذه المعضلة من زاوية أخرى، فالفيلسوف أرسطو في مقولته الشهيرة يقول: "لا عبقرية دون بذرة جنون"، وأصبح هناك فعلا ما يعزز هذه الفرضية، موجة كبيرة في العالم الغربي أجرت بحوثات عن الصلة بين المرض النفسي والإبداع، حيث استنتجوا أن معظم عباقرة هذا الكون في الفلسفة، السياسة، الفيزياء، الرياضيات، الشعر والكتابة أو غيرهم من الفنانين كانوا أشخاصا مكتئبين ويعانون مشاكلا نفسية وعقلية.

 

يذهب البعض إلى ربط المرض النفسي addiction بالأبداع creativity بحثا عن ما سمي ب "الجنون المبدع"، فبمجرد الحديث عن هذا تتوافد إلى مخيلتنا صورة العالم المجنون كما نراه في أفلام السينما أو صورة فنان غريب الأطوار والمكتئب حتما، وكأمثلة عن هذا "أينشتين" عالم الفيزياء الذي كان يعاني من متلازمة اسبرجر syndrome d’asperger، و"جون ناش" الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد كان يعاني من الشيزوفرينيا و"بيكاسو" و"موزار" و"تشرتشل" و"فيكتور هيغو" و"فريديرك دار" كانوا يعانون من ثنائي القطب وغيرهم من المبدعين في هذا العالم الذين عانوا من الاكتئاب والقلق والوسواس القهري ك "داليدا" و"ليناردو دي كابريو" و"التون جون" و"براد بيت" و"دفيد بيكهام" و"سيلفيا باث" "ايملي ديكينسون" و"رولينغ"…

 

هناك دراسة أقامها باحثون سويديون من قسم العلوم العصبية بمعهد كارولينسكا في ستوكهولم مع علماء من المعهد الوطني للاضطرابات العصبية (بيثيسدا، الولايات المتحدة الأمريكية) وتم نشرها في صحيفة البحوث النفسية Journal of psychiatric Reasearch  والتي تقول إن هنالك فعلا علاقة بين الإبداع والأمراض النفسية والعقلية، تمت المقاربة فيها بين المهن الإبداعية (فنانين، باحثين وموسيقيين..) والأمراض العقلية كالإكتئاب والشيزوفرينيا وثنائية القطب، والتي أبرزت في آخر المطاف أن الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى عالٍ من الإبداع لديهم كثافة منخفضة لمستقبلات الدوبامين في المهاد Thalamus، مثل بعض المرضى وعلى عكس الأشخاص الأصحاء الذين لا يتمتعون بإبداع قوي. يمكن لهذه الميزة الدماغية أن تنتج تدفقًا أكبر من المعلومات عن طريق المهاد والتي من شأنها أن تصنع أشخاصا مبدعين للغاية يتمتعون بقدرة غير اعتيادية وإنتاج رابطات غير مـألوفة ويتم تعريف الإبداع هنا على أنه القدرة على إنتاج عمل مبتكر وذا مغزى.

  

في المحصلة ضاعت مجتمعاتنا في تعريفها للاكتئاب وما شابهه من الأمراض النفسية، كل حسب مرتكزة الفكري بين جنون ومرض روحي وغيرها من التحليلات والتفسيرات العلمية والدينية وكلها تقابل بالنبذ والاستنكار، وكأن المريض النفسي فوق ما يعانيه هو بحاجة إلى مزيد من الألم والعزلة أو إن أولئك المتشدقين هم في معزل من الأمر! ألم يحن الوقت لتغيير تلك الصورة النمطية عن المرض النفسي والاكتفاء بالقول إنه مرض كجل الأمراض يحتاج فقط لعلاج. ومن يدري قد يخفي نوعا من أنواع الإبداع لا يتمتع به الأصحاء!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.