لا خلاف حول النجاح العالمي الذي حقّقه العمل الدراميّ التركيّ "قيامة أرطغرل" رغم إنكار الجاحدين، بل لا خلاف حول ارتقاء هذا العمل إلى مستوى الأعمال العالميّة الخالدة، فكلّ الأرقام تؤكد هذا. وذلك بدءً من نِسب المشاهدة المرتفعة جداً، وعدد الدول والقنوات التي تُبَثّ فيها حلقاته، وعدد القائمين على العمل من ممثّلين وفنّيين وصولاً إلى عدد ملايين الدولارات الذي بلغته كلفته. ولكن ليست هذه المعطيات هي وحدها التي وضعت هذا العمل الدراميّ على طريق المجد، إذ تقف خلفه وصفة عجيبة ثلاثيّة التكوين: مكوّناتها التاريخ والدراما والموسيقى، وآفاقها الدّولة والدّين والقوميّة التركيّة.
لقد عَرض قيامة أرطغرل أحداثاً تاريخيّة منتقاة بدقّة امتدّت على فترة تاريخيّة تُعتبر من أعسر الفترات التي عرفها التاريخ الإسلامي. تبدأ من أواخر العصر العبّاسي الرابع المعروفة تاريخيّا بفترة النفوذ السلجوقيّ وتصل إلى بواكير الدولة العثمانية، أي النصف الثاني من القرن السابع هجريّا والثالث عشر ميلاديّا. تلك الفترة كانت فترة انتقالية عسيرة نظراً لما عرفه المجال الإسلاميّ من حصار خارجيّ من المغول شرقاً والبيزنطيين غرباً إلى جانب الانقلابات والخيانات والمكائد التي ميّزت المجال الداخليّ خاصّة في أجواء تصادم الملل والنحل والإثنيات والهويّات التي استفاد منها الأتراك الأوغوز استفادة كبيرة، بتأسيسهم دولتهم العثمانيّة العليّة في آخر عام من القرن الثالث عشر ميلاديّا.
وإلى جانب التاريخ يَحُضر المكوّن الدراميّ حُضوراً مميّزاً مطبوعاً بطابع الدراما التركيّة القائمة أساساً على التشويق والتكثيف والاستباق والومضة الروائية، فتخضع الأحداث التاريخيٌة إلى سيناريو معقّد تتوالد فيه العقد وتفضي كلّ عقدة إلى عقدة بعدها. ولا يمكن بحال أن نغفل عن جودة الاختيار الموسيقي ودقّة الانسجام مع ما يُعرض من مشاهد، حتّى غدت الموسيقى في "قيامة أرطغرل" مُكوّناً دراميّاً خادماً لنسق الأحداث وبلاغتها.. فللحرب موسيقى، وللنصر موسيقى، وللخيانة موسيقى، وللمحاربين موسيقى، وللألم موسيقى، وللموت موسيقى، بل لحلب موسيقى، ولقبيلة الكايلار موسيقى، وللدودورغا موسيقى، وللصليبيّين موسيقى وللمغول موسيقى.. ولابن عربي أيضاً موسيقى. لقد تفاعلت هذه المكونات الثلاثة في سبيل البلوغ بالمشاهد التركيّ بالدرجة الأولى جملة من المقاصد لا تخرج في تقديرنا البسيط، وبإيجاز، عن خمسة:
واضح جداً من خلال نسق الأحداث على امتداد الحلقات المعروضة اتجاهها نحو غاية معيّنة، وهي بناء دولة تجمع شتات القبائل التركيّة. |
الدين مقوّم أساسيّ من مقوّمات الدولة
تُمثّل الدولة أكبر فكرة في مسلسل قيامة أرطغرل، فكلّ أحداثه تجري في مجاري الحفاظ على الدولة (السلجوقيّة في البداية)، وامتثال أوامرها مهما كانت، وحماية أمنها وحدودها، والتضحية في سبيلها، والحفاظ على مؤسساتها. ولكن ما إن بلغت هذه الدولة السلجوقيّة آخر أيّامها حتّى بدأ يظهر التفكير في دولة جديدة تتمثّل الإسلام. لكن أيّ إسلام؟ وبأيّ فهم؟ إنّه الإسلام الحركيّ الجامع بين القيم السياسيّة الكبرى؛ الحريّة والعدالة والشورى ونصرة المظلوم، سواء على مستوى بناء السلطة أو على مستوى أدائها لاحقاً، وبين تجربتها التاريخيّة في العصرين النبويّ والراشديّ. ولذلك كانت الغاية واضحة في تجسيد هذه القيم السياسيّة الإسلامية في سبيل بناء الدولة الجديدة على قواعدها، وكانت الشواهد من تجربتيْ النبوّة والخلافة الراشدة كثيفة.
كان واضحاً على امتداد ما عُرض من حلقات المسلسل حِرص رجل السياسة على تمثّل القيم الإسلاميّة خطابًا وممارسةً، وعلى عنايته برجال الدين من أمثال العالم محيي الدين بن عربي والعودة إليه في المشورة والرأي. إلى جانب عمارة بيوت الله بالعبادة والعلم، حتى أن بعض المشاهد كانت دروساً خالصة أو خُطباً جمعيّة أو عبادات فرديّة يكون رجل السياسة واحداً من ممثّليها. وإجمالاً قصد المسلسل رسم صورة مخصوصة لرجل السياسة في علاقته بالدين ورجاله.
خطر خيانة الداخل أكبر من خطر عدوّ الخارج
المستقبل وجهةُ سهمٍ انطلق من ماضٍ
الدولة القومية التركية سبب وجود الأتراك والعالميّة غايتهم
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.