شعار قسم مدونات

هل تحتمل المساجد التجارة بالدين؟

blogs صلاة

يقول السنوسي محمد السنوسي: "يخطئُ مَن يظنُّ أن الأحجارَ صمّاءُ لا تنطقُ ولا تبينُ.." إن مساجدَ البلدةِ القديمةِ التي في (خانِ) التّجّار كالمسجد (الكبير) مثلًا يتحوّلُ السّوقُ المُحيطُ به إلى مسجدٍ يومَ الجمعةِ يؤمُّ المُصلّينَ، فترى بائعَ الخيارِ والطّماطمِ وصاحبَ الدّكّانِ وغيرَهما مشَوْا خطُواتٍ فصاروا في عداد المُصلّينَ، فيصيرُ السُّوقُ مسجدًا. بل قد يلتقي أناسٌ يصلّون خارجَ المسجد (الحنبليّ) معَ أُناسٍ يصلّون خارجَ (البيك)؛ لتزاحمِ الناسِ في ساحاتِ السّوق وتقاربِ المِساحةِ بينَ هذَينِ المسجدَينِ تحديدًا.

عمومًا، لو تأمّلنا هندسةَ هذه المساجدِ لوجدناها بُنِيَتْ بذات الحجارةِ التي بُنيَ بها السّوق، بل لوجدناها تتوسّطُ بينَ الدّكاكينِ بعيدًا عن جوّ الرّهبانيّة المُغترِبِ عن واقعِه. إن المسجدَ في الإسلامِ له فلسفةٌ مِعماريّةٌ كما أن للكنيسةِ فلسفتَها، يقولُ علي عزّت بيغوفيتش: "في الكنيسةِ يسود جوٌّ من الصّوفيّة وفي المسجد يسود جوٌّ من العقلانيّة، المسجد بؤرة نشاطٍ دائمٍ وقريبٌ من السّوقِ في قلْبِ المناطقِ المعمورةِ بالسّكّانِ، أمّا الكنيسةُ، فتبدو أقلَّ التحامًا ببيئتِها، حيث يميلُ التّصميمُ المِعماريُّ للكنيسةِ إلى الصّمتِ والظّلامِ والارتفاعِ".

صرنا نعرفُ ما سيقولُه الخطيبُ قبلَ أن يقولَه، وباتَ الكلامُ مُكرّرًا على مسامِعِنا عشَراتِ المرّاتِ، إن في يومِ الجمعةِ آلافَ الخطبِ التي تُروَى، وآلافَ الأفكارِ التي تُناقَشُ

لو عُدنا قليلًا إلى داخلِ الإنسانِ لوجدنا أن الثّنائيّةَ القطبيّةَ تعني أن في الإنسانِ روحًا ومادّةً، وقد يغلب هذا على ذاك أو العكس، وقد كان هدفَ الإسلام أن تتوازنَ هذه الثّنائيّة في جسدِه، فالنبيُّ محمّدٌ – صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ – قبلَ تبلورِ الدّين الإسلاميّ -أي: قبلَ الهجرةِ- كان يذهبُ إلى الغار يتنسّكُ ويتعبّدُ ثمّ يرجعُ إلى مكّةَ -المدينةِ الكافرةِ في ذاكَ الوقتِ- مُبشّرًا ومُعلِنًا عن الدّينِ الجديدِ. كانَ لا شكَّ يتّسخُ ثوبُه من الواقعيّةِ، لكنّها طهارةٌ وأجرٌ كُتِبَ له أن شاءَ اللهُ، وأوّلُ أمرٍ تمَّ فعلُه حالَ هجرةِ الرّسولِ – صلّى اللهُ عليهِ وسلّم – كانَ بناءَ المسجدِ، فصارَ المسجدُ يعني كلَّ شيءٍ لدى المسلمين، وفيه تُقضَى أمورُهم، وتُعقَدُ راياتُهم، وتُسيَّرُ جيوشُهم، وتُروَى أشعارُهم.

لقد كانَ المسجدُ من خارجِه يُظهِرُ البساطةَ والتّشابُهَ فيما حولَه من المباني أمّا من الدّاخل فإنّه يعكسُ ظاهرةَ التجريد اللامتناهي -لا التجسيد كما في المسيحيّةِ – والتي تُظهِرُ عدمَ استطاعةِ الإنسانِ أن يحيطَ بذات اللهِ -جلَّ وعلا، لذلك كانتِ العِمارةُ الخارجيّةُ أقلَّ شأنًا من العِمارةِ الدّاخليّةِ. بعدَ هذا، إن أنسبَ هندسةٍ تُلائمُ تلكَ الثّنائيّةَ القطبيّةَ إذن مسجدٌ يلبّي ما فيها من حوائجَ وأمورٍ، وربّما كانَ للخطبةِ الإسلاميّةِ الأسبوعيّةِ النّصيبُ الأكبرُ في التحامِ ثنائيّةِ الإنسانِ بثنائيّة المسجدِ، ولكنْ – والحقيقةُ دائمًا بعدَ لكنْ – هل احترمَ الخطباءُ في هذا العصرِ هندسةَ المسجدِ في خُطَبِهم؟ أم أنّهم انتقلوا إلى المِثاليّةِ البعيدةِ عن الواقعِ وراحوا يكتبونَ الخُطَبَ في المودّةِ والصّداقةِ والعفوِ والتّسامحِ وغيرِها من الأمورِ التي أُشبعَتْ قولًا وتقريرًا وبحثًا ومُناقشةً؟

صرنا نعرفُ ما سيقولُه الخطيبُ قبلَ أن يقولَه، وباتَ الكلامُ مُكرّرًا على مسامِعِنا عشَراتِ المرّاتِ، إن في يومِ الجمعةِ آلافَ الخطبِ التي تُروَى، وآلافَ الأفكارِ التي تُناقَشُ. جميعُ هذه الأفكارِ كفيلٌ بإحياءِ أُمّةٍ مُوحَّدَةٍ ومُوحِّدةٍ بينَ عشيّةٍ وضُحاها، ولكنّها – الأمّةَ الإسلاميّةَ – ما زالتْ مريضةً على فراشِ الموتِ. مرَّتْ عشَراتُ السّنينَ ونحنُ على ما نحنُ، ضاعتْ أراضٍ وتشرذمتْ أُسَرٌ واغتُصِبَتْ نساءٌ وتاهَ شبابٌ في ظلُماتِ الهَوى، وما زال الخطيبُ يقولُ عن الحُبّ والعفو، أيَّ عفوٍ نطلبُ من الشّبابِ الذي لا يجدُ لقمةً يأكلُها؟ أيَّ عفوٍ نطلبُ منه وهو لا يستطيعُ تحقيقَ أدنى مطالبِه بالسّتر – الحلال – وأيَّ إسلامٍ سيتّبِعُ وهو يرى المشائخَ تحمّدُ مَن قطعَ عليهِ رزقَه؟

نعمْ، لقد جُبِلْنا على السّكوتِ، ولكنْ لا بأسَ فواقعُنا ضريبةُ سكوتِنا، وأحجارُ البلدةِ القديمةِ جميعُها شاهدٌ علينا يومَ القيامةِ، أختتمُ بأجزاءٍ من قصيدةٍ كتبتُها وألقيتُها في ديوانِ العائلةِ أحكي فيها عن نابلس، سائلًا المولى أن يُبدّل حالَنا ويجعلَه غيرَ هذا الحالِ:

نابلسُ يا موطِنَ التّاريخِ مُجتمِعًا يزدادُ حُسْنًا وعِزًّا كُلَّما هَرِما
كأنّما الطِّفْلُ في حاراتِها رجُلٌ تلقى بعَينَيْكَ إن عايَنْتَهُ أُمما
في (الياسَمينةِ) و(القريونِ) كم سَفَكَتْ يَدُ اليَهودِ -بعُمْرِ الطَّامِحينَ- دَما
نابلسُ يا خنجرًا في صَدرِ مَن طمِعُوا فليس ينفَعُ شانيها بما اعتصَما
يا غُصّةً ما استُسيغَتْ عندَ آكلِها وتستَضيفُ ببَطْنِ الآكلِ السَّقَما
مالي أراكِ خيالاتٍ مُكبَّلةً وظُلْمةً حَمَلَتْ في متنِها ظُلَما؟
ودمعةً في عُيونِ الأُمَّهاتِ هَوَتْ وفي شبابٍ يعيشونَ الحياةَ ظَما
قبَّلْتُ بعدَكِ طعمَ الموتِ في وَلَهٍ فما الوجودُ إذا ما كنتِ لي ألَما؟
كنتِ الفَخارَ وكنتِ العزِّ في زمَنٍ عزَّتْ بهِ أنفُسٌ تستنفِرُ الهِمَما
نابلسُ، تسألُكِ السُّكّانُ عن وطَنٍ كانَ الضّياءَ وكانَ الغايَ والحُلُما
نعمْ، تَعِبْتِ ولمّا يتَّصِلْ بَطَلٌ يلقى العدوَّ -إذا لاقاهُ- مُبتَسِما
وجارَ أهلُ الخَنا حتّى رأيتُهمُ باسْمِ الأمانةِ خَلَّوْا أهلَها عُدُما
توسَّدَ الأمرَ مظنونٌ بأصلِهمُ فلا يُراعونَ في إخوانهمْ ذِمَما
نابلْسُ يا أملَ المُشتاقِ صوبَ غَدٍ يردِّدُ الحقُّ في أرجائِه النّغَما
إذا رَضِيتِ فإِنَّ الدَّهْرَ ذو سَعَةٍ وإنْ سَخِطْتِ رَأَيْنا الدّهرَ مُحتَشِما
وافاكِ بالقولِ إبنُ (القادريِّ) فتًى وما مُناهُ سِوى المنجى إذا رَنِما..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.