شعار قسم مدونات

تحديات الثورة اللبنانية

blogs لبنان

كنت أتمنى أن أقرأ في تاريخ لبنان عن حادثة حصلت، ليس مسببها طرف خارجي، عام ١٩٥٨، انقسم لبنان بين مؤيد لحلف بغداد مدعوم غربياً، وبين مؤيد للحركة الناصرية والوحدة بين مصر وسوريا والمطالبة بالإنضمام إليها. واشتدت الأزمة بعد انهيار الحكومة الملكية في العراق ونجاح إنقلاب عبد الكريم قاسم عام ١٩٥٨، فطلب الرئيس اللبناني كميل شمعون المساعدة من الولايات المتحدة عملاً بمبدأ أيزنهاور.

 

عام ١٩٦٩، نشبت أزمة بين الجيش اللبناني والفصائل المسلحة الفلسطينية بسبب قيام الأخيرة اعتماد لبنان ساحة إنطلاق لعمليات فدائية ضد العدو الإسرائيلي. انتهت الأزمة بالتوقيع على "إتفاقية القاهرة"، وتنازُل سيادي لصالح الفصائل الفلسطينية، عام ١٩٧٥، نشبت الحرب الأهلية ودامت ١٥ سنة لعدة أسباب، وأهمها السلاح الفلسطيني، وتوسع الخلاف بسبب الصبغة الطائفية واجتياح العدو الإسرائيلي للأراضي اللبنانية.

 

منذ أن انسحب العدو الإسرائيلي من جنوب لبنان عام ٢٠٠٠، وحتى يومنا هذا، يبقى سلاح "حزب الله" هو نقطة إرتكاز كل الصراعات والأزمات التي عانى منها لبنان خلال العقدين من هذا القرن؛ وأهمها حرب تموز عام ٢٠٠٦. إذ أن الحزب المدعوم من إيران مباشرة، صادر حق الدولة في "الحرب والسلم" لصالح ملالي طهران، عملاً بمبدأ "ولاية الفقيه".

 

الطائفية أفيون اللبنانييون، زسعت الطبقة الحاكمة، وهم أمراء الطوائف، بنشره على عامّتهم لاستعبادهم، كمادة لتكريس أنفسهم زعماء تحت شعار "حماة الطائفة"

انفجر الشارع اللبناني في ١٧ تشرين الأول من هذا العام، وخرج عن بكرة أبيه، في كل المناطق اللبنانية داعياً ليس فقط للإطاحة بالحكومة، بل أيضاً "إسقاط النظام". طبعاً لا يمكن الاعتماد على شعارات أصبحت روتينية في الشارع العربي منذ اندلاع الثورات أواخر عام ٢٠١٠. لكن حقيقة، أن الشارع اللبناني أثبت وعياً نموذجياً في شعارات وحدت جميع المناطق والطوائف، فانقسم لبنان، بين شعب وجمهور. شعب يطالب بالتغيير الحقيقي، وجمهور من بقايا أتباع الأحزاب جميعهم.

 

لا يمكن تجاهل التاريخ وتراكماته عن هذا الحدث. فالعامل الظاهر الذي أدى إلى أزمة اقتصادية داخلية هو داخلي، معنون ب"الفساد"، لكن بالحقيقة لها علاقة بطريقة أو بأخرى بعوامل خارجية، كل المؤشرات الاقتصادية والمالية، تثبت أن وتيرة الانهيار المالي والاقتصادي زاد خلال محطتين: حرب تموز واستلام الرئيس عون سدة الرئاسة. وكلتا الحالتين، كانتا انعكاسا لصراعات إقليمية على لبنان. إذاً، العامل الخارجي حاضر وبقوة في هذا السياق.

 

كنت قد شرعت في كتابة مقال قبل اندلاع "الثورة"، وللكلمة تفصيل في اعتمادها أو لا، تحت عنوان "لبنان والدولة المستحيلة". أعرض فيه نظرية استحالة بناء دولة في لبنان، بسبب موقعه الجغرافي المحاذي لفلسطين، وبسبب وجود عدة طوائف لها ارتباطات خارجية، جعلت من أمرائها مفاتيح حل لصراعات خارجية في الساحة اللبنانية. ولكن حقيقة، توقفت عن كتابة المقال في اليوم الأول من المظاهرات اللا مركزية التي عمت كل المناطق اللبنانية، مع رفع العلم اللبناني وحده، دون تمييز طائفي، يدعون لإسقاط المنظومة الطائفية. واللافت خروج فئة لا يستهان بها في مناطق نفوذ "حزب الله"، وأيضاً الأعداد الكبيرة في طرابلس التي أصابها الحرمان منذ إعلان دولة لبنان، والتي كانت متهمة ب"الضالة عن السيادة اللبنانية وهويته". توقفت عن طرح نظرية استحالة بناء الدولة بسبب خلع معظم اللبنانيين عباءة الطائفية التي كانت تشكل حجر عثرة ضخم للولوج إلى الدولة الحقيقية.

 

الطائفية أفيون اللبنانييون، زسعت الطبقة الحاكمة، وهم أمراء الطوائف، بنشره على عامّتهم لاستعبادهم، كمادة لتكريس أنفسهم زعماء تحت شعار "حماة الطائفة". مع خلع رداء الطائفية، وأتمنى أن يكون مسلكاً دائماً واستراتيجياً وعن قناعة، أصبح اللبنانيون أقرب من أي وقت مضى في تاريخه لبناء الدولة، لأنها السبب الأول للتدخل الخارجي وانعكاس أي صدام إقليمي على ساحته.

 

اللبنانيون اليوم أمام تحديات كثيرة، وهم وحدهم يقررون إن كان مسلكهم ثوري حقيقي، أو مجرد احتجاجات ومظاهرات سيكون الوقت كفيل في إنهائها والعودة إلى نقطة الصفر، التحدي الأول فهم معنى الثورة، طريقها الطويل، والاستعداد للتضحية والإيمان بحتمية النصر. ومن الأهمية بمكان، أن يقتنع اللبنانيون بضرورة تجاهل دعوات السلطات الدينية، التي ترسم الخطوط الحمراء لحماية النظام القائم. وأيضاً القبول بالتضحية، لأن الأزمة المالية آتية، سواء بقيت السلطة أو تم الإطاحة بها.

 

التحدي الثاني هو استخدام القاعدة الذهبية "كلن يعني كلكن"، الشعار المنطقي الذي من خلاله سيتفق اللبنانيون بمختلف شرائحهم على ضرورة عدم استثناء أحد بتقديمه إلى القضاء. والجميع يعلم أن من بين المسؤولين اللبنانيين من لم يرتكب جرم فساد، لكن منعاً للالتباس، ولضرورة الإجماع، عليهم اعتماد هذا المنطق.

 

اللبنانيون اليوم أمام مفترق طرق، إما التراجع عن ثورتهم وبالتالي القبول بالعيش في دولة بوليسية أمنية ستالينية لا حياة فيها؛ وإما استرداد وطنهم المسلوب من أمراء الطوائف

التحدي الثالث هو التدرج والصبر. لأن منظومة الفساد وهي بيروقراطية كاملة، لها تاريخ وتراكمات يصعب اجتثاثها في فترة صغيرة. وهنا واجب على الخبراء في الدستور أن يبحثوا في طرق كفيلة للدخول في تفاصيل المنظومة الفاسدة لوضع الحلول لها. وللتدرج في التغيير تفصيل، كتشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة بصلاحيات استثنائية، تبحث في قانون انتخابي عصري، يمكن أن يكون خارج القيد الطائفي لاحقاً، وإجراء انتخابات مبكرة، وإقرار قانون استرداد الأموال المنهوبة. هي بيروقراطية فاسدة، لأن من غير المعقول أن تكون الكمية الهائلة من الأموال كانت تذهب مباشرة إلى جيوب الحكام الفاسدين، بل أن قسماً منها كان يذهب لكثير من التابعين في استحقاقات معينة. فبالعودة إلى الانتخابات، على سبيل المثال لا الحصر، منذ اتفاق الطائف إلى اليوم، مجموع ما صُرِف عليها يتعدى العشرات من المليارات! كانت الطبقة الفاسدة تسرق لتؤمن محيط يجدد لها زعامتها.

 

التحدي الرابع هو القبول ب"الواقعية السياسية"، واعتمادها كمبدأ للتغيير، ولعدم رفع شعارات يصعب جداً تحقيقها، والاكتفاء بشعارات لها علاقة بالفساد والمنظومة السياسية الطائفية وقانون الانتخابات، كمرحلة أولى. مثال ذلك أن المطالبة بسحب سلاح "حزب الله" الآن خطأ، لأن الأخير يسعى باستفزازاته التقليدية أن يجر الشعب لرفع شعارات سياسية استفزازية أيضاً، وبذلك يكون قد أقنع جمهوره المؤدلج أن هدف الثورة، الممولة من السفارات حسب منطقه، هو القضاء على "المقاومة".

 

التحدي الخامس والأهم، كيفية إجتثاث الأيديولوجيات التي تُترجم رابط بين شريحة من اللبنانيين ودولة إقليمية راعية، وينعكس ذلك صراعات في الداخل اللبناني.

 

التحدي السادس وهو الذي أُرجح الإخفاق فيه وأتمنى عدم حدوثه: الوقوع في فخ الطائفية مجدداً. لا شك أن بعض الأحزاب المسيحية أعطت للثورة زخماً، تلك التي ترى في وزير الخارجية جبران باسيل، المرشح لرئاسة الجمهورية بعد الرئيس عون، استراتيجية اختصار التمثيل المسيحي فيه. بانضمامهم للثوار، من محيط وأماكن مسيحية، لإسقاط "عهد باسيل"، أضافت للثورة الصبغة الوطنية الجامعة، والخوف من تنازلهم مقابل حقائب وزارية في "حكومة مواجهة" إن لجأت السلطة إلى مواجهة الشارع. وبذلك، ينسحب المسيحيون من الشارع، وتبقى البؤر السنية الوحيدة المشتعلة، لتعطي الثورة صبغة سنية فقط. أضيف أن السلطة لا تستطيع الاستغناء عن تيار المستقبل والرئيس الحريري في هذه الحالة، لأن مؤتمر سيدر الذي سينتشل لبنان من أزمته مؤقتاً، مرتبط باسمه مباشرة؛ فيعود الشارع برمته إلى نقطة الصفر. لكنه سيعود حتماً ليشتعل عند الانهيار المالي الكبير والمرتقب.

 

سيسأل البعض "هل يمكن بناء دولة حقيقية ذات سيادة مع وجود سلاح ميليشياوي تحت أي شعار له ارتباط بدولة خارجية لها مصالح معينة؟". والجواب أن القضاء على البيروقراطية الفاسدة والإطاحة بالمنظومة السياسية القائمة كفيل في وضع حد للسلاح الميليشياوي على المدى المتوسط أو البعيد. والدليل على ذلك ما يحدث في ساحات التجمع في بيروت، وكيف ظهر أن هذا السلاح هو الحامي الحقيقي للفساد، وأن القضاء على الأخير هو قضاء عليه حتماً، هذا السلاح الميليشياوي، يعتاش على التهرب الضريبي للبيئة التي تحتضنه، ولا أستثني بيئات أخرى طبعاً، وأيضاً من خلال السطو على المرافئ والمطار والمعابر الشرعية وغير الشرعية، وعلى ملف الكهرباء وعلى الأملاك البحرية. الاستفادة ليست حصراً به، بل إن المحاصصة وقطع قالب الحلوى يتماشى مع قاعدة حماية السلاح بشكل "شرعي" مقابل الاستفادة.

 

اللبنانيون اليوم أمام مفترق طرق، إما التراجع عن ثورتهم وبالتالي القبول بالعيش في دولة بوليسية أمنية ستالينية لا حياة فيها؛ وإما استرداد وطنهم المسلوب من أمراء الطوائف لإعادة بناء دولة حقيقية لا مستحيلة. وعلى الثوار أن يقتنعوا بأن السلطة بيد من له تاريخ في التفريط بكل شيء مقابل الكرسي، حتى بضباطه وجنده، ولكن في النهاية "سقط الجنرال".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.