شعار قسم مدونات

أٌريد أن أعود مواطناً

مدونات - الثورة السورية سوريا علم

لقد قررت أن أتغيير، كان قراري تاريخياً بالنسبة لي، لأني عادةً ما أكون متردد في كل شيء أُريد فعله في حياتي، لكن هذه المرة مختلفة تماماً، أريد أن أعود مواطناً صالحاً، أريد أن أُنهي سنوات الخيانة لنفسي ولوطني، أُريد أن أعود لاستكمال ما تركته عالقاً قبل بداية … (الأزمة) كما يحب أن يسميها المواطنون المخلصون، نعم كان القائد صادقاً وحكيماً، كانت أزمة شوّشت تفكيري وأسدلت غشاوة على بصيرتي لأراها ربيعاً وهي في الحقيقة كانت كما توقعها القائد خريفاً لوطني الحبيب.

 

أٌريد أن أعود إلى وطني، أريد أن أضع خطاب القائد نغمة رنين لهاتفي، أريد أن أعود لتعليق صورته الجميلة على حيطان المدرسة، أريد أن أعود لمطالعة كتب القومية وكتب المنطلقات النظرية لحزب البعث، أريد أن أعود عضواً عاملاً في الحزب واحتفل مع بقية شركائي في الوطن بذكرى الحركة التصحيحية وحرب تشرين وأشارك في مؤتمرات الحزب وأُعيد تجديد البيعة مرة خامسة وسادسة للرئيس وأنتخب قائمة الجبهة الوطنية لمجلس الشعب، أريد أن أعود مرة أُخرى … خاروفاً في مزرعة القائد.

 

لكن هل يستطيع وطني وقائدي غفران ما اقترفته من إجرام بحقه؟ الجواب هو في قراءة التاريخ، ولا اقصد هنا عشرات الكتب التي كتبها المخلصون لوصف شجاعة وحنكة القيادة الحكيمة، بل يكفي أن نفتح صفحات ذاكرتنا لندقّق كيف كانت حياتنا في عهد الرفاهية والاستقرار والأمن الذي كان وطننا الحبيب مشهوراً به، كيف كُنّا على قيد الحياة في بلادي قلب العروبة النابض.

 

مرت السنوات السابقة شديدة علينا وسنة بعد أخرى أثبت النظام شراسته الشديدة في مواجهة أي محاولة للتغيير، أثبت النظام أنه مستعد للتخلي عن كل شيء باستثناء مزرعته الخاصة بالمواطنين

وُلدتُ في الوقت الذي كان النظام ينهي فيه آخر صوت معارض له ،لذلك لم أعلم شيئاً عن مراحل نشأة النظام في بلادي حتى وقت متأخر، كُنتُ احفظ شعارات التصدي للإمبريالية والصهيونية التي كنا نرددها يومياً في المدرسة لم يخطر لي بدايةً أن هناك شيء غريب في هذه الشعارات بل كنّا مع معلّمينا نستمتع بمناقشة الدور الخياني الذي قامت وتقوم به الدول العربية لإعاقة مسيرة الحرية والعدالة والتقدم التي يقودها قائد الوطن، كان مُدرّسينا يستفيضون في شرح سرقة الدول الاستعمارية لجزء من ثروات البلدان العربية وكيف أن الحكّام الخونة كانوا راضين بذلك حفاظاً على مكانتهم وعروشهم، وكيف أن قائدنا كان صلباً في مواجهتهم حريصاً على ثروات بلادنا لا يقبل التنازل عن ذرة واحدة منها، علمنا لاحقاً أن ثمن تلك الثروات كان يضعه القائد بحسابات سرية في بنوك الدول الاستعمارية.

 

أعجبني جداً كتاب (الرفيق كيم إيل سونغ) الذي كان موجوداً في مكتبتنا، لم أعلم يومها أنه كان يوزّع مجاناً على أعضاء الحزب لإثراء معرفتهم بتجارب الدول الناجحة الممانعة لسياسات الهيمنة الإمبريالية على العالم، لم أعد اتذكر منه اليوم سوى أوراقه اللامعة وصوره التي يبتسم فيها الجميع، لم أعلم يومها أن الجماهير المبتسمة في الصور هي من أفقر الشعوب على وجه الكرة الأرضية وأن ابتسامتهم تخفي خوفاً من الزعيم الذي لا يغفر.

 

كان لابد من تذكيرنا دائماً في جميع الاجتماعات أن الشعارات الدينية يمكن أن تكون فخاً لاصطيادنا، لذلك كان لزاماً علينا مطالعة سلسلة الكتب التي أصدرها الحزب بعنوان (تاريخ أسود ونشأة مشبوهة) التي تتحدث عن حركة الإخوان المسلمين الإرهابية والجرائم التي ارتكبتها في حماة وحمص وحلب ودمشق مدعّمة بالصور والشهادات الموثقة، لم تذكر تلك الكتب عدد الذين قتلوا، لم تذكر ماذا كان يريد المتآمرون منا، كان يكفي أن تكون الصور مثيرة للاشمئزاز حتى تنطبع في مخيلتنا تلك المزاوجة بين الإرهاب والإخوان المسلمين، طبعاً كنت أتساءل احياناً عن صحة ما كتب في الكثير من الكتب لكن والدي لم يسمح لتلك التساؤلات بالخروج خارج جدران المنزل مُأكداً على صحة المعلومات مدعّماً ذلك بأمثلة عن الأشخاص الذين اختفوا بسبب تساؤلات مشابهة .

 

في المرحلة الثانوية كان ينُظر إلينا على أننا اقتربنا من مرحلة الخطورة (التفكير) لذلك كان لابد من وجود إطار يضمن عدم شرودنا خارج القطيع (جماهير الحزب)، لم يكن الانتساب الى الحزب أمراً اختيارياً فهو شيء من المسلمات، كل مواطن يجب أن يكون بعثياً على الأقل نصيراً (بمعنى مناصراً لقضايا الحزب وسياسته لكن دون أن يكون عضواً فيه)، ما زلت أتذكر كتاب الرفيق النصير الذي لم أقرأ منه سوى بضع صفحات كانت كافية للنجاح بالامتحان ولمعرفة أنها مجرد حشو لا وجود له على أرض الواقع، لم أشارك في أي انتخابات في حياتي لكن الصدفة جعلتني أدخل مركزاً للانتخابات كموظف يعمل على الحاسوب لمراقبة نزاهة عملية الاقتراع، قبل ذلك كنت على علم بأن الانتخابات هي عرض مسرحي لا أكثر لكن أن تكون جزء من العرض المسرحي شيء مختلف، كانت تجربة مفيدة وكوميدية جداً ما زلت نادم على المشاركة فيها .

 

مع بداية الربيع العربي شرح لي أحد رفاقي صعوبة تحقيق أي تغيير في بلادي بسبب تشعّب أذرع النظام الأخطبوطية وقدرته على قطع أي ذراع منها إذا تطلّبت مصلحته ذلك، لكن كنت أُجيب دائماً أنني أعلم صعوبة ذلك لكن أصر على أنه غير مستحيل، اليوم أعلم أني كنت أحلم، لكن ذلك كان مبرراً في ذلك الوقت لأنها المرة الأولى في حياتي التي امتلكت فيها الجرأة على الحلم.

 

مرت السنوات السابقة شديدة علينا وسنة بعد أخرى أثبت النظام شراسته الشديدة في مواجهة أي محاولة للتغيير، أثبت النظام أنه مستعد للتخلي عن كل شيء باستثناء مزرعته الخاصة بالمواطنين، حتى فن السياسة الذي كان يبرع به عدد كبير من مسؤوليه لم يُستخدم أبداً في المواجهة مع الشعب، لم يعد الكثير من السوريين طامعاً بالتغيير، هو يريد فقط العودة الى منزله، إلى حياته السابقة، لكن هل يقبل النظام أن يسامح أو أن ينسى؟ الوقائع التاريخية تقول أن النظام الذي قتل واعتقل وشرّد الملايين ولم يقبل أن يتراجع خطوة واحد عن مكاسبه، لن يسامح أو يغفر أو ينسى، حتى لو قتلنا جميعاً وبقي هو وحيداً في سوريا العروبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.