شعار قسم مدونات

لا داعي للقلق.. سينقذنا الله ككلّ مرّة!

blogs تأمل

أذكر جيدًا يومي الأوّل بعيدًا عن أمّي، اليوم الأوّل في مرحلة رياض الأطفال، أستطيع تذوق ملوحة دموعي التي ملأت وجنتاي مع رعشات متتابعة وشهقات متتالية كان جسدي يصنعها مترجمًا رسائل قلبي بأنّني خائفة، قد لا تكون هذه لحظة الخوف الأولى، حتمًا خفت وأنا طفلة أصغر من ذاك العمر، رؤيتي لحشرة لأوّل مرة، أو حتى خوفي من غريب أو قريب أراد السلام فاختبأت بحضن والديّ خوفًا منه.

  

رهبة الامتحان الأول، ركوبي الطائرة وحيدة للمرّة الأولى، الحديث عن القبر وعذابه، صراعات الانتقال من الطفولة إلى المراهقة، القصص الخيالية التي ابتدعها عامة الشعب عن تلك الفتاة التي أغضبت والدتها فسُخِطَتْ، ليلتي الأولى في السّكن الجامعي، ويومي الأول في الجامعة، ركوبي في سيارة الأجرة وخيالات الخطف في كلّ مرة

  

 

هذه نبذة بسيطة عن لحظات خوف ارتابتني خلال حياتي حتى الآن، وأغلبكم مرّ على كثير منها، إنّه الخوف، ذلك الشعور المضاد للطمأنينة، المنتزع للكثير من اللحظات الجميلة، والمهوّل للكثير من الأحداث وجَعْلها تبدو بشكل أسوء ممّا هي عليه في الحقيقة، أتعجّب حقًّا من قدرة العقل البشري على وضع سيناريوهات مصوّرة ومدروسة لكوارث محتّمة قد يكون احتمال حدوثها ضئيلاً حقًّا، لكن العقل يبدع في تصويرها ويقنع نفسه والقلب باحتمالية أن تصير حقيقة، وهنا يكمن سرّ الخوف.

 

تذكروا كلّ مخاوفكم السابقة التي صارت ذكريات الآن، تمرّون عليها مرور الكرام دون أن تعبث بقلوبكم كما فعلت في السابق كيف منّ الله عليكم بتجاوزها وأنقذكم منها بلطفه وكرمه

في الحقيقة نحن لا نخاف من المواقف التي تحصل، نحن نخاف من المجهول فقط، أي أنّ ما حصل قد حصل وما وقع قد وقع وانتهى، نحن فقط نخشى المجهول، الأمور أو الأشخاص أو حتى الأوقات والمواقف التي لسنا على دراية بها، ويحضرني هنا مثال واحد وهو الموت، ماذا لو كان بإمكان الأموات العودة إلى هذه الحياة الدنيا واطلاعنا على كلّ ما مرّوا به بدءًا من السّكرات وحتى سؤال الملكين، ماذا لو سمعنا منهم كيف تبدو حياة البرزخ وماهيّتها، لو كان هذا بالإمكان، ربّما لن ترتجف أرواحنا في كلّ مرّة يصلنا بها خبر أحدهم أنّه قد صار في ذمّة الله، إنه المجهول فعلا، وبطبيعة الحال كلّ مجهول مخيف.

 

وعلى نقيض الخوف تمامًا أتأمل الموت بهدوء ثم أطمأن، الله لن يضيعنا، لم يتركنا ونحن نعصيه والروح ما زالت فينا، أيتركنا ونحن لا نملك من أمرنا شيئًا؟ حاشاه. الخوف أيضًا، مرّ بسيدتنا مريم عليها السلام في لحظات المخاض، طفلٌ صغير قد تشكّل داخل أحشائها لم يكن له أب، خوفها من ولادته وممّا قد تلاقيه من قومها. لم يكن لخوفها أن يزول دون رسائل الرحمن، أمان هذه الأرض وطمأنينتها، سرّ راحتها وسكينتها عندما أخبرها " ألا تحزني" فالخوف مقترن بالحزن، مبشرًا إياها أنّه معها ولن يتركها!

 

رسالة واضحة لأمّنا مريم عليها السلام، لكنها لنا أيضًا، الله عزّ وجل، مفتاح الأمان، ونور السماوات والأرض، قادر على طمأنتنا دومًا وانتشالنا من بقع الخوف المظلمة، كلّ هواجس الخوف التي قد تمرّ بنا، وكلّ معارك الروح التي قد تقضّ مضاجعنا، يستطيع الخالق أن يحمينا منها، وموقف أمّ سيدنا موسى، عندما فقدت فلذة كبدها وظنّت أنّها نهاية اللقاء وبداية الفقد، فأوحى إليها الله "ولا تخافي ولا تحزني" وردّه الله لها ولدها!

 

تذكروا كلّ مخاوفكم السابقة التي صارت ذكريات الآن، تمرّون عليها مرور الكرام دون أن تعبث بقلوبكم كما فعلت في السابق كيف منّ الله عليكم بتجاوزها وأنقذكم منها بلطفه وكرمه، لن ننكر الخوف فهو شعور بشري طبيعي جدًا، يدفع للحرص في كثير من الأحيان، وقصة سيدنا يعقوب وخوفه على سيدنا يوسف خير دليل، لكن يجب ألا نبالغ به للدرجة التي ترسم كثيرًا من الأوهام والشكوك التي قد لا تنتهي، الخوف بصورة معقولة مطلوب دون تهويل أو أذى للنفس.

 

ضعوا كلّ ما يخيفكم أمام عينكم، واجهوه باليقين بقدرة الله على إصلاح كلّ شيء، وتذكروا أنّ كلّ ما هو قادم مكتوب قبل ولادتنا، وتخيلوا لحظات الطمأنينة عندما تصبح كلّ هذه المخاوف ذكريات كما حصل مع سابقاتها، حتى خوفنا من خالقنا عزّ وجلّ لم يأتِ وحيدًا، جاء مصحوبًا بالرّجاء والحبّ وحسن الظّن، فالعبرة من كلّ ما سبق كما قال أحدهم ذات يوم: "لا داعي للقلق، سينقذنا الله ككلّ مرّة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.