شعار قسم مدونات

الروح المهاجرة.. أن تعيش في الماضي أكثر من الحاضر!

blogs-سجن سوريا

"وليست الحياة بعدد السنين ولكنها بعدد المشاعر… لأن الحياة ليست شيئاً آخر غير شعور الإنسان بالحياة". سيد قطب. أنا الآن أعيشُ في عالم آخر، كل شيء فيه غريب، لكن الشيء الواضح أمامي هي الأربع جدران التي تحتويني داخلها؛ إذن هذا هو عالمي الخاص، وداخل هذه الحجرة أمارس كل شيء حتى الأشياء التي تتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى. الأمر المعتاد هو الرتابة، ولا جديد سوى كرِّ الأيام والليالي رغم قتامة ما أنا فيه، ثمة شيء يجعلني أخرج خارج حدود هذه الجدران الصلبة إنها الذاكرة فأنا أتذكر كل شيء.

السجين يعيشُ على الماضي أكثر من الحاضر، حيث لا جديد يبدعه غير اجترار الماضي أمام ناظره كي يُنشئ حياة تؤنسه في وحدته، أنا هنا أسير مقيد ومغيب عن الحياة الأخرى؛ لهذا تراني اتفاعل مع أي شيء حتى لو كانت بلا قيمة، المهم ألا أتوقف عن الإحساس. لا أريد أن أتجمد فتتشقق روحي، فأنا أريد أن أخرج خارج حدود الزمان والمكان، ولا يهم بعدها أين الجسد يرقد. النفس الإنسانية لا تستطيع أن تمتنع عن مخالطة الأرواح هكذا جبلنا، وحين تُصفّد في مكانها ويمنع لها الانطلاق نكون قد صادمنا النواميس الكونية، لا يمكن أن يكون السجن أجمل من الحرية، لكنه يكون في بعص الأحيان نعمة على المرء دون أن يدرك ذلك، فلو لم يسجن مالكوم إكس لما تعرف على الإسلام داخل السجن، وما أثم سيد قطب تفسيره وخرج بهذه الحرارة الإيمانية الدفاقة، وما تولّى سيدنا يوسف خزائن مصر.

كثيراً ما يحتاج الواحد منا أن يختلي بنفسه عن الآخرين، أن يعيش عزلة مؤقتة يعيد فيها صياغة حياته، وهندسة أفكاره، وأن ينشئ قواعد وقوانين جديدة لحياته. ما أجملها يوم أن تتخفَفَ من أثقالكَ، وتجلس وحيداً هائماً في صمتك، تراقب تحلل، تخطط، تنفذ تصنعُ من نفسِك إنساناً جديداً، وفكراً نيراً، ورأياً سديداً. يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور": أسمى مشاعر الإنسان هو أن يتأمل.. وإذا تأمل تعطلت الإرادة الإنسانية ليفرغ الإنسان إلى ما هو أسمى من الرغبات.. أن يتأمل نفسه والكون حوله.

أنا أعيش في عالم كل شيء له قانون، الطعام، القراءة، الكلام مع رفقاء السّجن. كل شيء تحت النظر والمراقبة، فأنا مجرد من ذاتي وكياني…

في السجن أنشأتُ عالماً خيالياً أمارس فيه حياتي بشكل اعتيادي، فأسمح لروحي أن تحلّق بعيداً، فتخرج من جاذبية الأرضِ، والدمِ، واللحمِ. بالأمس كانت ذكرى حبيبة إلى قلبي إنّها ذكرى زواجي، يوم أن اقترنت بشقيقة الروح، وأُنْسُ الحياةِ، وبهَجة العُمْرِ. كم تمنيت لو أنّي خارج هذا السجن لاحتفل بذكرى هذآ الارتباط، وأهدى زوجتي وردة زرعتها بنفسي، وسقيتُها بأنفاسي، فهي ستأخذ جزء مني؛ وبما أني مقيد الأغلال لا الروح كانت رسالتي لها كالآتي:

زوجتي وقرة عيني: اليوم هو الْتِئام روحي بروحك بعد أن كانا في عالم الغيب، فإذا هما في عالم الواقع، هل ما زلتِ تذكرين يوم أن نظرتُ إليكِ حينها أصابتني رعشة هزت أوصالي فتقدمتُ إليكِ قائلاً: أنتِ جميلة الروح، وأجدني أنجذب إليكِ، يبدو بيننا "صيغة كيميائية" حينها تسمرتي مكانك، فقط كانت تعلو وجهك الهادئ ابتسامة أشبه بنسمات هادئة تُلامس الروح فتنعشها. زوجتي وقرة عيني: أنا أعيش في عالم كل شيء له قانون، الطعام، القراءة، الكلام مع رفقاء السّجن. كل شيء تحت النظر والمراقبة، فأنا مجرد من ذاتي وكياني، لكن هناك شيء لا يستطيع أحد كائناً من كان أن يسيطر عليه أو أن يَسْلُبُكَ إِيَّاهُ أنها الروح. أعني أنه لا يستطيع السجان أن يأسر روحك فيمنعها من الانعتاق من السجن، لذلك دوماً أنا خارج هذا المكان فقط الجسد الذي يراوح مكانه، أما الروح تذهب بعيداً حيث ملامسة الأرواح الأخرى. وأعترف لكِ لم تغيبي عن ناظري ومخيلتي، كنتِ دوماً شاخصتاً في ذاكرتي وربما تستغربين لو أخبرتك أني كنت أمزجُ طيف خيالك بعذباتي وألمي فلا أشعر إلا وكأني بلا آهات، وأحزان. كنتِ دوماً المنتصرة على خيباتي، وفشلي، وألمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.