شعار قسم مدونات

إدمان السكر.. هكذا تسيطر شركات الأغذية على عقولنا

blogs حلويات

كل مسؤول تنفيذي في مجال الإعلان يعرف الفارق بين التسويق والدعاية. فأحدهما يستخدم الحقائق لتبني وجهة نظر، في حين يعتمد الآخر على الأكاذيب والخداع. لكن إذا كان الفارق هو الصدق، فما هو القاسم المشترك؟ القاسم المشترك من منظور العلماء هو الدوبامين. ومن منظور صناعة الأطعمة المعالجة، كانت هذه الحقيقة تساوي تريليونات الدولارات.

  

الدوبامين هو الناقل العصبي لمركز المكافأة في الدماغ، وتنشطه محفزات مثل الكوكايين، والنيكوتين، والكحول. لكنه يُطلَق أيضا بفِعل المعلومات. على سبيل المثال، يُظهِر مسح الدماغ أنه عندما يسمع الناس تصريحا يعتقدون أنه صحيح ــ ليس من المهم هنا التثبت من صحته ــ فإنهم يحصلون على جرعة من الدوبامين. وقد استغل خبراء الدعاية هذه الخاصية في وظائف الدماغ لقرون من الزمن، واليوم بات من الممكن استهداف هذا الخلل في علم الأعصاب بشكل فردي لتحويل السياسة الشعبوية إلى سلاح.

  

لكن الشركات هي الجهة الانتهازية الأكبر في هذا السياق. فقد قامت قطاعات عديدة بالدعاية لمنتجاتها بين عامة الناس، فقمعت بشكل منهجي المخاوف بشأن الأضرار الحقيقية؛ وهنا يتبادر إلى الذهن على الفور الصناعات البترولية، والتبغ، والمواد الأفيونية. ولكن لم تقدم أي صناعة مثل هذا القدر الهائل من التضليل على مدار السنين ــ وساهمت في زيادة أعداد المرضى، والتكاليف العامة، والخراب الاقتصادي ــ كذلك الذي قدمته صناعة الأغذية المعالجة.

تشكل خواص الإدمان في السكر جزءا لا يتجزأ من اقتصادياته. فهو كمثل القهوة غير مرن سعريا، بمعنى أنه عندما ترتفع التكاليف، فإن الاستهلاك يظل ثابتنا نسبيا

تمثل الأمراض غير المعدية نحو 50% من عبء الأمراض العالمي ونحو 75% من إجمالي الإنفاق على الرعاية الصحية. والدور الذي تلعبه الأغذية المعالَجة في هذه الحالات المزمنة غير قابل للجدال؛ وكل دولة تتبنى "نظاما غذائيا على النمط الغربي" يتسم بارتفاع نسبة الدهون والسكر فهي مبتلاة بنفس الأمراض والتكاليف. لكن السؤال الأكبر الذي يواجه العاملين في مجال الصحة هو ما إذا كان اللوم يقع على كمية الأغذية أو نوعيتها. وهو تمييز مهم، لأن المستخدم هو الذي يحدد الكمية، في حين تتحكم الصناعة في الجودة أو النوعية.

  

يزعم بعض خبراء الصحة أن مكونات بعينها في الأطعمة المعالجة ــ وخاصة السكر ــ لا تقل إحداثا للإدمان عن الكوكايين والهيروين. على سبيل المثال، يشكل السكر المكون الحاصل على أعلى الدرجات على مقياس ييل للإدمان الغذائي، الذي يقيس التوق الشديد لأطعمة بعينها بين الناس.

  

تقول صناعة الأغذية المعالجة: "أنت تحتاج إلى السكر لكي تعيش". والواقع أن السكروز الغذائي ــ أو سكر المائدة الشائع ــ يتألف من جزيئين متساويين في النسبة: الجلوكوز والفركتوز. ولكن على الرغم من التطابق من ناحية السعرات الحرارية (4.1 سعرا حراريا للجرام)، فإن كل من المادتين تتصرف بطريقة مختلفة تماما عن الأخرى عند استهلاكها. فالجلوكوز هو طاقة الحياة؛ حيث يُحرَق بواسطة كل خلية في الجسم. والجلوكوز مادة بالغة الأهمية، حتى أن الامتناع عن تناولها يرغم الكبد على التعويض من خلال عملية تسمى "تخليق الجلوكوز". على النقيض من هذا، يُعَد الفركتوز، برغم كونه مصدرا للطاقة أيضا، عنصرا غذائيا لا وظيفيا للبشر؛ فلا تحتاج خلايانا إليه لكي تؤدي وظائفها. وقد أظهرت أبحاثي أنه في حال تناول الفركتوز بمقادير تتجاوز قدرة الكبدة على استقلابها، فإن الفائض يتحول إلى دهون كبدية، ومن الممكن أن تعمل هذه الرواسب على تعزيز مقاومة الأنسولين وتساهم في تطور الأمراض غير المعدية.

  

كما يؤثر الفركتوز على استهلاك السكر الغذائي. على سبيل المثال، أظهرت الدراسات على الحيوانات أن السكروز يعدل دوبامين الدماغ ومستقبلات الأفيون على نحو مماثل للمورفين وينشئ مسارات ثابتة للتوق الشديد إلى الطعام. وفي فئران المختبرات، تفوق المواد الحلوة المذاق الكوكايين كمكافأة مرغوبة.

 

تُظهِر مسوح الدماغ البشري أن الجلوكوز ينشط القشرة الدماغية (الجزء "الإدراكي" من أدمغتنا)، في حين يمنع الفركتوز تلك الإشارة ويضيء بدلا من ذلك الجهاز الحوفي (دماغ "الزواحف"). فضلا عن ذلك، في حين لا يعرض السكر أعراض الانسحاب الكلاسيكية، فإنه يؤدي إلى التسامح والتبعية على النحو الذي قد يسبب الشراهة، والتوق الشديد، والحساسية المتصالبة للمواد المخدرة. وهذه بعض الأسباب التي جعلت منظمة الصحة العالمية ووزارة الزراعة في الولايات المتحدة توصيان الناس بالتقليل من كمية السكر في وجباتهم الغذائية.

  

سعت مؤسسة أبحاث السكر إلى إقناع الطب السريري بالتركيز على الدهون المشبعة بدلا من السكر، كما دفعت طب الأسنان السريري إلى التركيز على لقاح تسوس الأسنان بدلا من التقليل من استهلاك السكر

تشكل خواص الإدمان في السكر جزءا لا يتجزأ من اقتصادياته. فهو كمثل القهوة غير مرن سعريا، بمعنى أنه عندما ترتفع التكاليف، فإن الاستهلاك يظل ثابتنا نسبيا. والواقع أن المشتريات من المشروبات الخفيفة وغير ذلك من الأطعمة المحلاة لا تتأثر بشكل كبر بالضرائب أو الأسعار المتقلبة.

  

ليس كل من يتعرض للسكر يصبح مدمنا؛ ولكن كما هي الحال مع الكحوليات، يدمنه كثيرون. ورغم أن السكر المكرر هو نفس المركب الموجود في الفاكهة، فإنه يفتقر إلى الألياف ويجري إخضاعه لعملية البلورة لتنقيته. وهذه العملية هي التي تحول السكر من "غذاء" إلى "عقار"، مما يسمح لصناعة الأغذية باصطياد المستهلكين غير المرتابين. ويتجلى الدليل بوضوح في كل ممر في أي متجر للبقالة، حيث يضاف السكر إلى 74% من كل المواد الغذائية. الواقع أن جاذبية السكر من الأسباب الكبرى التي تجعل هامش الربح الحالي لصناعة الأغذية نحو 5% (ارتفاعا من 1%)، والتي تجعل كثيرين منا مرضى، وبدينين، وأغبياء، ومفلسين، ومكتئبين، وبائسين ببساطة.

 

وكانت الدعاية ضرورية للحفاظ على الإدمان الجماعي. فمنذ عام 1954 على الأقل، أدرك مديرو الصناعات الغذائية التنفيذيون أن الاستهلاك الزائد للسكر يسبب مشاكل صحية. وباستخدام نفس الحيل التي استخدمتها شركات التبغ ــ وفي بعض الحالات بالاستعانة بـ نفس الأشخاص ــ نجحوا في التغطية على الأدلة وضاعفوا جهودهم على نفس المسار. وقد مولوا علوما رديئة، وانتقوا الباحثين والمنتقدين، وحولوا اللوم، ودعوا إلى تخفيف الرقابة الحكومية، بل وحتى سوقوا لمنتجاتهم بين الأطفال (كما هي الحال مع "توني النمر"، وما يعادل "جو كامِل" في صناعة التبغ الكبرى من حبوب الإفطار).

 

كما أفاد زملائي في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، فإن مؤسسة أبحاث السكر ــ المجموعة التجارية للصناعة ــ سعت حتى إلى إقناع الطب السريري بـ التركيز على الدهون المشبعة بدلا من السكر، كما دفعت طب الأسنان السريري إلى التركيز على لقاح تسوس الأسنان بدلا من التقليل من استهلاك السكر. بعبارة أخرى، لا تختلف تكتيكات الصناعات الغذائية الكبرى عن صناعة التبغ الضخمة.

  

إن علاج أي نوع من الإدمان يصبح أمرا بالغ الصعوبة بمجرد أن يتضرر النظام الحوفي في الدماغ إلى الحد الذي يصبح معه الدوبامين قادرا على توليد المكافأة. والحل الأفضل هو منع الإدمان في المقام الأول، وفي حالة الأطعمة المعالجة سكريا، فإن هذا يعني تسويق الحقيقة للمستهلكين. لقد فقدنا بالفعل جيلا واحدا بسبب آفة الأمراض غير المعدية. وقد حان الوقت لممارسة الضغوط على صناعة الأغذية الضخمة قبل أن نفقد جيلا ثانيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.