شعار قسم مدونات

الذكاء والموهبة.. من عدسة مجتمع مترهل!

blogs مجتمع

كان خطّي جميلاً حين تعلّمتُ الكتابة وظلّ كذلك، حتى وعندما علمتُ أنّ الخطّ الرديء سمة العبقرية، لم أستطع جعل خطِّي رديئًا ليُشار إليّ بالعبقرية، كما أنَّني لم أستطع حلَّ الألغاز المكتوب فوقها(most of people cannot solve this)  ولم أبحث عن شيءٍ وهو بيدي كدليلٍ على استغراقي في التفكير أو أرتديَ قميصي بالمقلوبِ مرتين على التوالي، وكنتُ آملُ أن أقصَّ على أصدقائي حادثة اصطدامي بالعمودِ أثناء اندماجي بقراءة كتابٍ ما، وحين جرّبتُ القراءة وأنا أمشي لم أصطدم بشيءٍ والمرة الوحيدة التي كدتُ أصطدم فيها أزاحني رجلٌ وهو يحسبُ أنَّه فعلَ خيراً، وكنت كمعظم طلاب الصفِّ أحلم أن أصبح طبيباً، لم أدرك لماذا أريد ذلك لكنَّ والداي أراداه وغرساه فيَّ كلَّما حصلتُ على علامةٍ كاملة "نريدك طبيباً" وكلّما رسبتُ بامتحانٍ "لن تصير طبيباً هكذا" فاعتنقتُ رغبتهما حتى تهيأت لي أنَّها رغبتي.

لم يقل لي أحدٌ تستطيع أن تكون ذكياً وإن لم يحصل لكَ كلَّ تلك الأمور -فهذه أدّلتهم على الذكاء- في الحقيقة لم يقل لي أحدٌ أنّ هناك أشكالاً أخرى للذكاء، فعشتُ طفولتي سمكةً تحلمُ بالطيران لأنَّ الطيران معيار المجتمع الوحيد للناجحين والأذكياء. من يستطع حلَّ المسائل الرياضيَّة والفيزيائيَّة، ويرفع يده بعد كلِّ سؤالٍ كالأغنياء في مزارات بيع الأحذية اليونانية، ومن صار طبيباً أو مهندساً يُنظر إليهم برهبةٍ وتميّزٍ وغيرهم انسانٌ عاديٌ…. في حين لا يوجد إنسانٌ عادي بل يوجد مجتمعٌ لديه معيارٌ وحيدٌ لتصنيف الناس، مجتمعٌ بدائيُّ التفكير ببعدين "يُحترم" أو "لا يُحترم" لم يعترف أنّ الناس جميعهم أذكياءُ لكنْ كلٌّ لديه ذكاءه الخاص، لذا سكبنا المجتمع جميعاً في قوالبِ الذكاء التقليدي من تشكّل على شكله صلح للاستخدام ومن لم يكمل القالب لا يصلح للاستخدام ومن فاض عن القالب أزال الزائد منه ليستقر على ما أراد.

حتى يُبدع الإنسان وينطلق بأفكاره يجب أن تُشبع حاجاته الأساسية من طعامٍ ومسكن، ثمّ بعدها يبدأ الاهتمام بالجانب الفكري، وكلّما ازدادت الرفاهية بمجتمعٍ ازداد معها الحسُّ الإبداعي

بكيتُ كثيراً ولطمتُ وجهي أكثر؛ لأنّني لستُ متميزاً -بمعايريهم- لذلك قضيتُ وقتاً وجهداً كبيرين في حلِّ المسائل الرياضية وحفظ الألغاز حتى أتبجح بها على الناس مفاخراً بقدراتي، وحين صرتُ بنظر المجتمع متميزاً فقدتُ ذاتي. طمستُ شغفي الأصيل بالإبحار مع الصور الشعرية وتأكيدي على المدرِّس أنَّ أبيات المتنبي في قصيدته تحمل معانٍ أكبر من تحليل مفرداتها، وأنَّ الحالة النفسية للشاعر هي شعلة القصيدة الأولى، فأسكتني بحجة أنَّ الشعراء يكتبون لأنَّهم يريدون ذلك ألم ترى أنّهم مدحوا الخلفاء رغم كرههم لهم. أمَّا الطامة الكبرى حين ذهبتُ بفرحتي وقصيدتي الأولى إلى الأستاذ ليقيَّمها هو لم يقل لي أنَّها تشبه كلَّ شيءٍ سوى الشعر ولم يرمها بوجهي ولم يقرأها حتى، بل نظر إليَّ نظرة أبي حين يريد من أمّي التوقف عن الكلام وقال لي "اهتم بدروسك، الشّعر لن يوفّر لك مهنة" نعم يا أستاذي الشعر لن يوفَّر لي مهنةً فهو أرفع من ذلك والشعراء إن كتبوا الشعر ليمتدحوا الخلفاء وهم يكرهونهم فلقد كتبوه لأنَّ حاجتهم إلى المال هي حالتهم النفسية. 

غارقون في مجتمعٍ يُصنِّفُ الناسَ حسب اللقب الوظيفي الذي يسبق اسمه، وكلَّما زاد عددها زادت هيبة صاحبها واحترامه، حتى يكاد يحسب نفسه طفلاً، الجميع يقدِّم له الحبَّ ويستصغر أخطاءه ويعفو عنها، وأيُّ مسمًى لا يندرج تحت الوظيفة ودرِّ المال يُهمل، لذلك تبقى مواهبنا في بذرتها الأولى حتى تقرر الموت جرَّاء عدم اكتشافها أو إهمالها. 

رغم ذلك لا أستطيع الوقوف متبجحاً، أُلقي التهم والأسباب على المجتمع كي أحرر غيظي وأنسى أنَّ هذا المجتمع هو نحن، وأنَّ هناك أسباباً لنظرته تلك، يُرتِّب (هرم ماسلو) حاجات الإنسان حسب الأهمية، وحتى يُبدع الإنسان وينطلق بأفكاره يجب أن تُشبع حاجاته الأساسية من طعامٍ ومسكن، ثمّ بعدها يبدأ الاهتمام بالجانب الفكري، وكلّما ازدادت الرفاهية بمجتمعٍ ازداد معها الحسُّ الإبداعي والاهتمام بالفنون والمسرح والأدب، وهكذا في مجتمعٍ كمجتمعي لا أستطيع أن أتأمل بعث بيتهوفن آخر أو نزار قباني ما لم تُشبع حاجاته الأساسية. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.