شعار قسم مدونات

الاقتصاد والأدب.. كيف نفهم الاقتصاد عن طريق الروايات؟

blogs - اقتصاد

يعتبر علم الاقتصاد العلم الاجتماعي الأكثر تقدما من الناحية الرياضية، وهو العلم الأشد تخلفا من الناحيتين الاجتماعية والإنسانية، والسبب في ذلك حسب الفيلسوف إدغار موران هو تجرده من الشروط الاجتماعية والتاريخية والسياسية والنفسية والبيئية والتي لا سبيل إلى فصلها عن الأنشطة الاقتصادية، ولذلك أصبح خبراؤه يزدادون مع الوقت عجزا عن تفسير أسباب الاختلالات التي باتت تعتري العملات والبورصات وتفسير عواقبها ويزدادون عجزا عن التكهن والتنبؤ بالمجرى الذي سيسير فيه الاقتصاد على المدى القصير، وهو ما دفع بعض الاقتصاديين إلى الانفتاح على فروع المعرفة الإنسانية والاجتماعية الأخرى كمحاولة للحصول على صورة أكثر وضوحا باعتبار أن المشكلات متعالقة مع بعضها في الزمان وفي المكان بينما الأبحاث الاقتصادية التخصصية تعزل المشكلات بعضها عن بعض.

   

ساهمت الرواية عبر العصور المختلفة في نقل صورة عن الواقع الاجتماعي والاقتصادي لمختلف المجتمعات، وفتحت نوافذا عديدة على الحياة الاقتصادية، كما قدمت تصورات مهمة ودقيقة عن النظرية الاقتصادية في العمل والإنتاج والنظم النقدية وغيرها، كما كانت الرواية فضاءا يتواصل من خلاله القارئ عاطفيا ووجدانيا مع تجارب الناس المتعلقة بالسلع والأسواق، بالإضافة إلى أدوارهم كمستهلكين وعمال ومنتجين، خصوصا في الأزمنة التي لم تكن فيها البيانات الإحصائية متوفرة.

 

لقد برزت في السنوات الأخيرة العديد من الدراسات الاقتصادية التي حاولت الاستفادة من الرواية الأدبية في بناء وتطوير النظرية الاقتصادية، فعلى سبيل المثال قام الباحثان واتس وسميث أكثر من سبعين عملا أدبيا غنيا بالمواضيع والنظريات الاقتصادية، في حين قام روكوف من خلال تحليله لرواية الساحر أوز الشهيرة كرمز لجدلية نظام المعدنين، بينما نجد الاقتصادي فارمان قد قام بمناقشة الخلفية الاقتصادية التاريخية والنظريات الاقتصادية لست وثلاثين مسرحية من مسرحيات وليام شكسبير.

  

تقدم الرواية الشهيرة لوليام شكسبير تاجر البندقية مدخلا مهما لفهم جذور النظام المالي العالمي الراهن والقائم على الديون والفائدة، وتساعد على بلورة نظرة تاريخية وفلسفية شاملة حول آليات الإقراض والاقتراض كما تعكسها المشاكل الاقتصادية في العصور الوسطى

أما الاقتصادي المثير للجدل في الوقت الراهن توماس بيكيتي في كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين، نجده قد استعان في كتابه برواية الأب غوريو للروائي بالزاك، لدراسة اللامساواة في الدخل من العمل واللامساواة في ملكية رأس المال والدخل الذي تولده في مجتمعات الثورة الصناعية، ففي هذه الرواية يشرح فوتران لراستينياك، وهم من شخصيات الرواية، كيف أنه من الوهم الاعتقاد بأن تحقيق النجاح الاجتماعي ممكن عبر الدراسة والموهبة والجهد، ويرسم فوتران صورة تفصيلية للمسارات الوظيفية الممكنة التي تنتظر راسيتينياك إذا ما تابع دراساته في الطب أو القانون، وهي مجالات تهم فيها الكفاءة المهنية أكثر من الثروة الموروثة، يشرح فوتران بوضوح بالغ لراسيتينياك ما هو الدخل السنوي الذي يمكن أن يطمح إليه في كل هذه المهن، كمحاولة للإجابة عن سؤال مركزي هو هل العمل والدراسة وحدهما كافيين لتحقيق نفس مستوى الرغد الذي كانت تقدر عليه الثروة الموروثة والدخل المشتق منها؟ الملفت للنظر في هذه الرواية حسب بيكيتي هو دقة الأرقام والصورة التي رسمها لمجتمع الاستعادة.

 

ينصح فوتران صديقه راسيتينساك بالزواج من الآنسة فيكتورين بدل متابعة دراسته، حيث سيضع يديه على ثروة قدرها مليون فرنك، سيمكنه ذلك من أن يدر دخلا سنويا قدره خمسون ألف فرنك وهو في سن العشرين، وبالتالي يحقق فورا عشرة أضعاف مستوى الرغد إلى كان يأمل فيه بعد سنين من راتب وكيل النيابة الملكي، وهو ما يتوافق ما وصل إليه بيكيتي من خلال تحليله لهيكل الدخل وسلم الثروة في فرنسا في القرن التاسع عشر، حيث كانا في وضع يتمكن فيه أغنى الفرنسيين من مستوى معيشة يصعب أن يطمح إليه المرء اعتمادا على الدخل من العمل وحده، في ظل هذه الشروط، يحاول فوتران إقناع راسينينياك، لماذا العمل؟ ولماذا التصرف بشكل أخلاقي بما أن اللامساواة الاجتماعية كانت في ذاتها غير أخلاقية.

 

استطاع بلزاك من خلال رواية الأب جوريو تقديم صورة واضحة عن تقسيمات الواحد في المائة والعشرة في المائة الأعلى من سلم الدخل بصورة دقيقة دون الحاجة لإحصاءات لإثبات ذلك، وإيصال صورة واضحة ودقيقة عن الاستراتيجية الناجحة للصعود الاجتماعي في المجتمع الفرنسي خلال القرن التاسع عشر.

 

وفي تطرقه للسلم الأخلاقي للثروة ومن أجل تبرير الضريبة السنوية التصاعدية على الثروات الأكبر عالميا، وبعد تقديمه أمثلة من الواقع العالمي يستعين بيكيتي برواية مغامرات نيفزوروف أو أبيكوس(1926)، لأليكسي تولستوي لإيصال فكرة مفادها عدم وجود صلة على الإطلاق بين الثروة والجدارة، حيث تبدأ الملكية أحيانا بالسرقة، ويمكن للعائد الجبار على رأس المال بسهولة أن يجعل الجريمة الأصلية أبدية. فقد حاول تولستوي رسم صورة لفضائع الرأسمالية، ففي سنة 1917 في سانت بطرسبرج، قام المحاسب سيمون نيفزوروف بتكسير خزانة على رأس صاحب محل التحف، الذي كان قد عرض عليه وظيفة، وسرق منه ثروة صغيرة، وكان التاجر قد أصبح ثريا عبر شراء مقتنيات نبلاء الاستقراطية الهاربين من الثورة بأسعار البخسة. ثم يتمكن نيفزوروف من مضاعفة رأسماله الأصلي عشرة مرات في ستة أشهر بفضل وكر القمار الذي يؤسسه في موسكو مع صديقه الجديد رايتشيف.نيفزوروف هو كائن طفيلي بغيض يجسد فكرة أنه لا صلة على الإطلاق بين الثروة والجدارة.

 

وتقدم الرواية الشهيرة لوليام شكسبير تاجر البندقية مدخلا مهما لفهم جذور النظام المالي العالمي الراهن والقائم على الديون والفائدة، وتساعد على بلورة نظرة تاريخية وفلسفية شاملة حول آليات الإقراض والاقتراض كما تعكسها المشاكل الاقتصادية في العصور الوسطى، وقبيل الانتقال إلى مرحلة الرأسمالية المعاصرة وصعود الرأسمال النقدي، تبدأ القصة عندما يقوم المرابي اليهودي شايلوك بإقراض المسيحي أنطونيو، وهو الذي يضمر كراهية شديدة لأنطونيو، لأنه يقرض الناس بلا فائدة في وقت كانت الكنيسة تعتبر الإقراض بفائدة خطيئة كبيرة، فيصر شايلوك على أنه إذا تخلف أنطونيو عن السداد في الوقت المحدد فسوف يأخذ مقابله رطلا من اللحم يقتلعه من جسم أنطونيو

  

وعندما علم شايلوك أن سفن أنطونيو قد غرقت، أخذ يستعد لتنفيذ شروط العقد بسرعة، رغم أنه عُرض عليه مضاعفة قيمة الدين، وحينما يصر شايلوك على تنفيذ العقد، وتسمح له المحكمة بتنفيذه، هنا يشترط القاضي مؤكداً أن العقد يسمح لشايلوك باقتطاع اللحم وحده، دون أي إراقة قطرة واحدة من دماء أنطونيو. وعليه فإنه، إن أراق أية قطرة من دماء أنطونيو، ستصادر جميع أملاكه وأمواله حسب قانون البندقية، ويضيف القاضي بأن عليه أن يقتطع رطلا واحداً، من دون زيادة أو نقصان، وإن زاد وزن اللحم، ولو بشعرة واحدة، ستصادر جميع أملاكه، هنا يوافق شايلوك على أن يأخذ المال مضاعفا، ولكن المحكمة ممثلة في شخصية بورشيا تتمسك بتطبيق القانون، وتقول له لو أخذت غراما واحدا زيادة أو نزف أنطونيو، سيكون مصيرك الموت، وعندما يعلن تنازله تكون الفرصة قد ضاعت، وأن أملاكه ستقسم بين الدولة وانطونيو وابنته، فيسأل: يعني لن أحصل على أصل الدين؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.