شعار قسم مدونات

نجوم الفن والسياسة.. كيف ترشح الطوائف اللبنانية نجومها؟

blogs لبنان

إلى جانب الفن التمثيلي والفن الغنائي اللذان يحظيان بأهمية واسعة في لبنان، قد يظهر فن جديد على الساحة، فمقابل عناوين نجومية كراغب علامة أو وائل كفوري أو حتى وائل جسار، هناك نجوم أخرى تلمع على الشاشات ألا وهم نجوم السياسة! فليس النجم سعد الحريري مثلا أو النجم نبيه بري أو حتى وليد جنبلاط أقل شأناً بنجوميتهم.

 

إنه بلد النجوم وبلد الطوائف، فلكل طائفة نجم ثاقب يحكمها.. أما نجوم الفن، فهم للطوائف كلها، فلكل فنان صوت يغنيه أو شكلٌ وهيئة تسعفه، أما في السياسة فلا الهيئة ولا الأصوات! إنها وجدان المجتمعات وسياقاتها التاريخية التي تختار من يمثلها، وحذاقة المسؤولين وخطاباتهم، فـ (الشاطر بشطارتو) كما يقول المثل اللبناني، وكم من عائلة سياسية أصبحت من الماضي وكم شخصية مستجدة أصبحت في صلب القرار. فما هي محركات الزعامة في لبنان وكيف تختار الطوائف نجومها؟

كما أوحينا، لبنان وطن الطوائف وليست طوائف للوطن، وهي بطبيعتها مجتمعات وقبائل متجذرة في الجغرافيا لها سياقها التاريخي الخاص بها من الناحية الثقافية والإثنية. فالسنّة بشكل عام يرون أنفسهم امتداداً عضويا وطبيعيا للجوار العربي والإسلامي المحيط بهم، فهم جزء من أمّة كبيرة تجاورهم في الجغرافيا والثقافة. أما الشيعة في لبنان، فهم أكثرية في وطن وأقلية في محيط يتخبّط في مشاكله المذهبية والسياسية، ويكاد يكونون جزء أساسي من أحد أطراف النزاع الإقليمي فيها. أما المسيحيين الموارنة، فهم أقلية في الدين والثقافة، وما أنجح شعارات سياسيهم في توصيف هذا الاستنتاج. إذاً لكل طائفة حالتها الخاصة ومتطلباتها الظرفية، كما أن لكل منها نظرة خاصة للهوية الوطنية التي تنطلق منها نماذج الزعامة والحكم.

الهوية الخاصة بالمجتمع الماروني المتوجسة بالخصوصية الدينية والمناطقية لا يمكن إلا أن تصنع هوية الأنا وهوية الأخر، وهي كلها أفكار حارة

بدايةً مع المجتمع المسيحي، فإن أغلب الشعارات التي تطلقها المنابر السياسية تتمركز حول "مصلحة الطائفة"، إنها عقدة الخوف الأزلية التي لم يخرج منها المجتمع الماروني المتجذّر تاريخيا في هذه البقعة الجغرافية من الأرض، إن التيار الأقوى في هذه الطائفة يحمل عبئ "مصلحة المسيحيين" في كل خطوة وخطاب، أما الأحزاب الأقل حجماً فهي تحمل شعارات تدل على العيش المشترك وحسن الجوار، وخاصة مع السعودية والخليج.

 

إن الهوية الخاصة بالمجتمع الماروني المتوجسة بالخصوصية الدينية والمناطقية لا يمكن إلا أن تصنع هوية الأنا وهوية الأخر، وهي كلها أفكار حارة (مصطلح في نظرية علم النفس السياسية) في الخطابات السياسية. ولعل رئيس الجمهورية الحالي هو أبرز نجومها برفع شعار "حقوق المسيحيين" والتقرب من الأقليات ومجابهة الأكثريات في فترات طويلة سابقة استطاع أن يتسلق بها الزعامة المسيحية، وبالتالي فإن المؤشرات تقول أن كل شعار يحمل الخصوصية والذاتية يمكن أن يعبّد طريق المسؤولية والزعامة.

ولكل مجتمع سياقه الخاص، فقد شهد المجتمع الإسلامي الشيعي تغييرات جذرية مع ثورة الملالي في إيران (1979)، إذ بدأ النسيج الشيعي ينتزع جلده القديم على أنغام طبول الحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، بحيث تأسس حزب الله اللبناني ممولاً من الثورة الإيرانية التي رمّمت أرضية دينية واسعة في إيران بعد حكم الشاه، وهي الدولة التاريخية للإمامة الإثنى عشرية التي وفرت الدعم لكل الفصائل المشتركة مذهبيا معها خارج أراضيها.

 

إن المجتمع الشيعي بغالبيته يحمل ثقافة مذهبية عميقة، وقد قضت على أغلب البيوت السياسية التقليدية التي أخذت بيد الوطن اللبناني نحو الاستقلال. إننا قد لا نجد شعارا سياسيا يخلو من القداسة كتحرير الأراضي المقدسة وحماية المراقد الدينية أو تصدير ولاية الفقيه، وهي كلها عناوين وثّقت العلاقة بين المجتمع الشيعي وزعمائه، حتى الذين هم خارج الفلك الإيراني كالرئيس نبيه بري (حركة أمل). لقد ولدت الزعامة الشيعية من رحم الحرب والثورة الإيرانية، إذ لم تشهد الزعامات أي حركة تجديدية، فحتى الزعامة فيها شيء من السمو والتقديس لدى هذا المجتمع المتأصل في جغرافيته، ولعلنا لن نجد ما يثير أي خطوة تجديدية في المسار السياسي الشيعي، سوي من يمكن أن يزيد سقف شعارات المقاومة أو من يستطيع أن يحرر القدس على أبعد تقدير.

إننا نعيش اليوم تغيرات اجتماعية عميقة في لبنان، ولكننا لا نستطيع تجاهل السياق التاريخي للمجتمعات ولا حتى هوياتها الإثنية والثقافية
إننا نعيش اليوم تغيرات اجتماعية عميقة في لبنان، ولكننا لا نستطيع تجاهل السياق التاريخي للمجتمعات ولا حتى هوياتها الإثنية والثقافية
 

أخيراً فيما يتعلق بالمجتمع السني، فقد شهد ثورة سياسية مع استلام الرئيس الشهيد رفيق الحريري زمام مبادرات السلام والخروج من الحرب الأهلية اللبنانية، وقد قضى خلالها على كل البيوت السياسية التقليدية أو ما يعرف بالإقطاع السياسي. إن من يتابع رؤساء الحكومة في الخمسين سنة التي مضت، يستطيع أن يستنتج أن السنّة هم أكثر من رفعوا الشعارات الوطنية والعيش المشترك والمناصفة، إنها عقدة "الأكثرية" التي تريد دوما أن تعترف بحجم غيرها الذي لا يوازي حجمها في وطن قام على التوازنات المعقدة، وقد تبرمج المجتمع السني على هذه الشعارات، إذ يكاد يلفظ كل التيارات المتطرفة التي عبرت أجواءه السياسية والاقليمية.

 

يمكن أن نلاحظ أن المجتمع السني اللبناني هو مجتمع معقد ومتعدد طبقياً – وليس على غرار المجتمعين الشيعي والماروني المتجانسين نسبياً، فهو مجتمع فيه من الالتزام الديني وغير الالتزام، حتى أن الطبقة الوسطى ظلت فاعلة في النسيج الاجتماعي (لفترة مضت). يمكن أن نستنتج أن رأس المال والاقتصاد هي أولويات مجتمعات تغزو السواحل اللبنانية ونبض اقتصادها، عدا تعلّقها العضوي بالدول الخليجية الرأسمالية التي توفر لها فرصاً اقتصادية والتي خرّجت أغلب زعماء السنّة الحديثين (أولهم رفيق الحريري). ولعل الانتخابات الماضية تترجم بشكل مباشر أولويات المجتمع السني السياسية، فحتى رؤوس الأموال المعارضة للسلطة كان لها نصيبها من البرلمان النيابي.

ختاماً، إننا نعيش اليوم تغيرات اجتماعية عميقة في لبنان، ولكننا لا نستطيع تجاهل السياق التاريخي للمجتمعات ولا حتى هوياتها الإثنية والثقافية، فمواضيع الدين والجغرافيا والاقتصاد كلها عوامل ثابتة في صياغة عناوين الزعامة والقيادة. ورغم الحديث عن التوريث السياسي ومآلاته في وطننا، ولكن يبقى للسياسة دهاليزها وأحاجيها. إن أسمى هدف عند السياسيين قراءة مجتمعاتها-أو المجتمعات التي خرجت منها، فالكل حريص على إبقاء زعامته أو الاستحصال عليها، وهو يبدو مستحيلا دون إغواء الناخبين وإقناعهم بخياراته التي غالبا ما تكون حبراً على ورق المنابر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.