شعار قسم مدونات

ماذا أبقى التضخم من معاش المواطن السوري؟!

مدونات - سوريا اقتصاد سوق مواطن

سبع سنوات دامية على الصعيد الإنساني رافقتها أزمات اقتصادية كارثيَة طالت كافة المؤشرات الاقتصادية الكلية للاقتصاد السوري وأنهكت جميع قطاعاته الإنتاجية من خدمات وصناعة وتجارة وزراعة، فوفقاً للبنك الدولي في تقريرٍ له في تموز 2017 فإنَ الخسائر التراكمية في الناتج المحلي الإجمالي في سوريا منذ عام 2011 حتى نهاية عام 2016 بلغت ما قيمته 226 مليار دولار، بينما أشارت إحصائيات تابعة للمكتب المركزي للإحصاء والذي يعتبر المركز الرسمي للحكومة السورية أنَ مؤشر سعر المستهلك CPI الذي يصف مستوى التضخم في أسعار سلع وخدمات المستهلك تجاوز 790 بالمئة في أيار 2017، أي أنَ الأسعار بلغت ثمان أضعاف ما كانت عليه تقريباً في 2010.

 

بالإضافة إلى ذلك، وفقاً لإحصائيات أخرى غير رسمية فقد تجاوزت معدلات البطالة 50 بالمئة خلال فترة الصراع معظمهم من فئة الشباب، الأمر الذي أدى إلى تفاقم مشكلة الهجرة بشكلٍ كبير، حيث لم يعد الهرب من تلك الحرب الطاحنة الدافع الوحيد لهجرة المواطنين إلى الخارج، بل إنَ تدني مستوى المعيشة في البلاد أصبح مبرراً آخراً للخروج من البلاد وذلك سعياً وراء حياة معيشية أفضل.

 
نظراً لتشعَب القضايا والمشكلات الاقتصادية المتعلقة بالاقتصاد السوري خلال السبع السنوات الأخيرة فمن غير الممكن إلقاء الضوء عليها جميعها في مقالٍ واحد، بل إنًما تحتاج لعدة مقالات يتم فيها ذكر كل قضية على حدى و بشكلٍ مفصل، لذلك في هذه التدوينة سيقتصر الحديث فقط عن التضخم في أسعار السلع والخدمات وآثار ذلك على تكاليف معيشة المواطن السوري.

  

بمقارنة ما كان يحصل عليه المواطن السوري من أجر في عام 2010 مع ما يجنيه الآن، فمن الواضح أنه خسر أكثر من 67 بالمئة من راتبه طوال تلك الفترة

منذ مطلع 2011 وبداية الأحداث في سوريا، لم تظهر أي تضخمات غير طبيعة في الأسعار في السوق الداخلي، فقد بلغ معدل التضخم آنذاك 6.3 بالمئة مقارنة مع 4.4 بالمئة في السنة التي سبقتها. لكنَ ذلك لم يدم طويلاً، فمع اشتداد ضراوة الصراع السوري في 2012 ارتفع معدل التضخم نحو 36.5 بالمئة، ومن ثم بلغ ذروته في 2013 متجاوزاً 82 بالمئة في حادثةٍ لم يشهدها الاقتصاد السوري سابقاً. إنً التكاليف الناجمة عن التضخم في 2013 كانت الأشد قسوةً على معيشة المواطن السوري طوال تلك الفترة، فقد ارتفعت أسعار السلع والخدمات بشكلٍ كبير، حيث تجاوز التضخم المرتبط بسلع المواد الغذائية والمشروبات 109 بالمئة بينما بلغ مؤشر أسعار المستهلك المتعلق بتجهيزات المنازل وأعمال الصيانة ما يقارب 228 بالمئة، أي أنها تجاوزت ضعفي ما كانت عليه في عام 2010. كذلك الأمر بالنسبة لبقية السلع فقد وصل مؤشر أسعار المستهلك المتعلق بسلع الملابس والأحذية إلى أكثر من ثلاثة أضعاف ما كان عليه في 2010، بينما بلغ التضخم في إيجارات المنازل وتكاليف الكهرباء والغاز والطاقة نحو 48 بالمئة.

  
أما فيما يتعلق بالخدمات فقد كان معدل التضخم في أسعارها متفاوت إلى حدٍ ما، فقد وصل التضخم في أسعار خدمات المطاعم والفنادق 141 بالمئة، بينما بلغ معدل التضخم في أسعار خدمات النقل والصحة نحو 78 بالمئة و55 بالمئة على التوالي، أما بالنسبة للتعليم فقد ارتفعت تكاليفه آنذاك نحو 32 بالمئة، في حين بلغ التضخم في أسعار خدمات الاتصالات 22 بالمئة. في السنوات التي تلت 2013 على الرغم أنها شهدت انخفاضاً ملحوظا في معدلات التضخم إلا أنً مؤشر أسعار المستهلك استمر في تحقيق أرقام قياسية جديدة تجاوز أضعاف ما كان عليه في 2010، فمثلاً في أيار 2017 تجاوز مؤشر أسعار المستهلك الخاص بخدمات المطاعم والفنادق 1200 بالمئة أي 12 ضعفاً، بينما بلغ 9 أضعاف في كل من الأغذية والمشروبات وتجهيزات المنازل وأعمال الصيانة المتعلقة بها.

  undefined

 

وهنا نتساءل هل ما زال معاش المواطن السوري كافياً لتغطية حاجاته اليومية بعد كل تلك الارتفاعات الكبيرة في الأسعار على مدى السنوات السبع الأخيرة؟! وفقاً للمكتب المركزي للإحصاء بلغ متوسط الأجور والرواتب للعاملين بأجر لعام 2010 في سوريا 11344 ليرة أي ما يعادل تقريباً 244 دولار أمريكي، لكن مع بداية الأحداث في 2011 صدر مرسوم تشريعي بزيادة الرواتب ليصبح بعدها راتب المواطن السوري ما يقارب 16412 ليرة، إلا أن رغم تلك الزيادة بقي الراتب بحدود 298 دولار أمريكي وذلك بسبب انخفاض الليرة مقابل الدولار في نهاية العام والذي تجاوز 55 ليرة آنذاك.

  
مع ازدياد الأوضاع سوءاً في 2013، والانخفاض الشديد لليرة أمام الدولار والذي قارب 142 ليرة لدولار الواحد، أُصدر مرسوماً تشريعياً ينص بزيادات تترواح بين 40 بالمئة و5 بالمئة ليصبح متوسط الأجور للمواطن السوري 28106 ليرة سورية. إلا أن القيمة الحقيقية للأجر لا تتعدى 198 دولار، أي أنه انخفض تقريباً 100 دولار مقارنة على ما كان عليه في 2011. ومع حلول عام 2015، تم إصدار مرسوم أخر ينص على زيادة قدرها 4000 ليرة شهرياً باسم تعويض معيشي والذي أدى بموجبه إلى ارتفاع راتب المواطن السوري لـ 32106، بينما وصل الدولار آنذاك 312 ليرة لتصبح القيمة الحقيقية للراتب حوالي 103 دولار.

 

وهكذا استمر سيناريو الزيادات الإسمية في الرواتب والأجور والذي لم تستطع الحكومة من خلاله حتى من تثبيت القيمة الحقيقية للأجر على ما كان عليه في 2010 ليكون أخرها مرسوم تشريعي رقم 13 لعام 2016 الذي ينص على زيادة الرواتب بمقدار 7500 ليرة كتعويض معيشي شهرياً، وبالتالي يصبح مجموع ما يتقاضه المواطن السوري مبلغاً قدره 39606. إلا أن استمرارية انخفاض قيمة الليرة امام الدولار والذي وصل إلى 500 ليرة سورية حسب النشرة الرسمية لعام 2016 زاد من تدهور القيمة الحقيقية للراتب الشهري لينخفض إلى 79 دولار أمريكي فقط.

   
إنَ بمقارنة ما كان يحصل عليه المواطن السوري من أجر في عام 2010 مع ما يجنيه الآن، فمن الواضح أنه خسر أكثر من 67 بالمئة من راتبه طوال تلك الفترة، لذلك إذا أردنا من متوسط الرواتب والأجور في سوريا مواكبة ذلك الارتفاع في الأسعار والذي وصل إلى 790 بالمئة حسب مؤشر أسعار المستهلك في 2017 فما علينا إلا أن نضاعف راتبه بمقدار 8 مرات تقريباً ليصبح نحو 313 ألف ليرة وبالتالي يكون المواطن السوري تمكن من تحصيل نفس القيمة الحقيقية للراتب الذي كان يجنيه في 2010 دون اعتبار أي ترقيات سنوية أخرى في الراتب. وهذا يتوافق مع دراسة أخرى تفصيلية انتهت إليها صحيفة محلية تدعى قاسيون، حيث وجدت أن تكاليف المعيشية الشهرية للأسرة السورية المكونة من خمس أشخاص تبلغ نحو 290 ألف ليرة وذلك وفقاً للأسعار سلة المستهلك المعتمدة في الإحصاءات الرسمية في أيلول 2016.

   undefined

 

أخيراً، إذاً كيف يعيش المواطن السوري في ظل ذلك المعاش المنخفض؟! إن انخفاض القيمة الحقيقة لمتوسط الأجور في سوريا جعل من الصعب جداً الاعتماد عليه كمصدر وحيد في تمويل الاحتياجات الضرورية للعائلة السورية، لذلك كان لابد من إيجاد مصادر مالية أخرى إلى جانب المرتب الشهري تدعم المواطن السوري في تغطية التزاماته الرئيسية ومن أهمها:

 

التحويلات الجارية مع العالم الخارجي أو ما يسمى بـ Personal remittances والتي بدأت تزداد مع بدء استقرار حياة المهاجرين السوريين في الخارج، حيث تعتبر مصدر تمويل هام لملايين السوريين في الداخل، فوفقاً للمجموعة الإحصائية 2017 الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء، فقد بلغ صافي التحويلات 1076.2 مليار ليرة سورية في 2016 أي ما يقارب 2.37 مليار دولار أمريكي. بالإضافة إلى ذلك، إنَ الادخارات الشخصية بمختلف أشكالها سواء كانت نقدية أو غير نقدية تعتبر أيضاً من أهم المصادر المالية للأسر السورية في تمويل حاجاتها الضرورية والتي غالباً ما تكون قد نفدت في السنوات الأولى من الأحداث في سوريا. أخيراً، إنً اللجوء إلى الاقتراض سواء من الأقرباء أو البنوك على الرغم من صعوبته إلا أنه أحد الحلول الأخرى المقترحة لسد ذلك العجز المالي الذي يعاني منه المواطن السوري شهرياً.

  
أما من لا تتوفر لديه تلك البدائل التمويلية وهم الغاليبة الساحقة من الشعب السوري فهو حقيقيةً يعيش تحت خط الفقر، أي أنَه يعيش في فقر مدقع بحيث يعجز عن توفير تكاليف المتطلبات الدنيا الضرورية للعيش، وهذا ما يؤكده التقرير الذي أعدته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب أسيا التابعة للأمم المتحدة (الإسكوا) مع جامعة سانت أندروز البريطانية في نهاية عام 2015 والذي أظهر أن أكثر من 83.4 بالمئة من الشعب السوري يعيشون تحت خط الفقر!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.