شعار قسم مدونات

لا تقف صامتاً.. وقل ماذا تفعل لو كنت مكاني؟

blogs غزة

تصور نفسك محاصراً في بقعة جغرافية ضيقة، كالقبر تطبق جوانبها عليك، الأعداء من أمامك يحاصرونك ويودون لو يتخلصوا منك.. والسلطة المسؤولة عنك من خلفك تفرض عقوباتها عليك وتحاول خنقك وزعزعة صمودك.. تقف مشدوهاً مصدوماً.. ولكن لماذا؟ يأتيك الجواب موارب بألف صيغة وصيغة.. ولكن المختصر المفيد يقول: أنت قد تبنيت خيار المقاومة المسلحة ضد الأعداء، واخترت سبيل الجهاد.. فتحمَّل عاقبة اختيار.. أليس فوك من نفج ويداك من أوكتا؟

راتبك مخصوم، لا تستطيع الحصول عليه بالكامل، أبنائك يطالبونك بأقساط دراستهم ومواصلاتهم، ووالدتك تطالبك بدوائها، وصاحب البيت يلح عليك بالأجرة، وزوجتك تريد منك احتياجات الأسرة من غذاء وكساء.. وأنت لا تملك شيئاً، تذهب لوظيفتك الحكومية كل صباح، ولا تقصر في أدائها قيد أنملة، ولم تتأخر عنها يوماً.. ولكن خلفك سلطة ظالمة، لتجبرك على الانتفاض والثورة على من يمسكون زمام المقاومة والجهاد في بلدك المحاصرة.. تخصم راتبك، فمرة تراك تتلقى ثلثي الراتب، ومرة نصفه ومرة ثلثه.. تصرف لك أو تخصم من راتبك حسب ما يأمرها به شيطانها. حتى تقنعك بالانصياع لجبروتها تصادرك حقك.. وتحيلك على التقاعد قبل أوانك.. وتقف أنت قانتاً لا تعرف كيف وأين ولماذا وماذا ومتى ومن.. تتركك كالمتسول على بابها، تعطيك مرة وتمنعك وتنهرك ألف مرة.. ماذا ستفعل حينها يا تُرى؟ أي الطلبات ستلبي، وأيها سترفض؟

تصور أن ابنك أصيب برصاصة متفجرة في ساقة.. فتَّتت عظامه وسحقتها.. حاول الأطباء إيقاف النزف، ولكن.. ما من حل سوى البتر، فإما أن تُبتر ساقه، أو تبتر حياته

تصور نفسك وتصور حصارك.. تصور أنك في القرن الحادي والعشرين في عصر التكنولوجيا والذكاء الصناعي أنك لا زلت تعيش بغير كهرباء.. تشعل في الليل شمعة أو قنديل كاز، وفي الليالي القمراء تنام على أشلاء الأشعة المتسللة إلى بيتك من النوافذ التي حطمها القصف.. لا يضير فمنذ متى عرف الإنسان الكهرباء؟ ألم يعيش الإنسان عصوراً طويلة بدون كهرباء؟.. ولكن، تصور أن تأتي طفلتك تبكي متذمرة: "بابا.. أنا مش عارفة أنام من شدة الحر.. بيتنا يا بابا مثل الفرن.. بدي مروحة يا بابا.. بدي مكيف يبرد الهواء".. تقف عاجزاً، فماذا ستقول لها؟ وكيف ستشرح لها الأمر؟.. وماذا أيضاً ستقول لوالدك المريض الذي يكاد الوجع يقتل روحه وهو يناديك: "والله يا ولدي نفسي في شربة مية باردة.. مشتهيها ترطب حلقي"، هل سترفض طلبه؟ هل ستقول له إن السلطة المسؤولة عنك تمنع عنك الماء البارد وتمنع عنك الكهرباء؟ ثم تصور زوجتك وهي تلح عليك: يا أبو فلان، أريد ثلاجة موصولة بالكهرباء، أحفظ فيه طعامنا، وأبرِّد فيها الماء".. تقف بائساً يائساً أمام طلباتهم قائلاً: ليته كان بيدي.. ما تأخرت عليكم لحظة.. فينفضون عنك منكسرين محزونين!

وتصورك نفسك، ثم استحضر حصارك، وتذكر أنك لا زلت تعيش في بقعة محاصرة من الأعداء، ثم تأتي السلطة المسؤولة عنك فتمنع عنك الدواء.. كيف سيكون حالك يا تُرى؟ أخوك مريض بالسرطان.. أخبرك الأطباء أن علاجه خارج إمكانياتهم بسبب الحصار، وانعدام الأدوية والأجهزة والخبرات.. لا بد من تحويله إلى خارج القطاع.. إلى أين يا تُرى؟ سنرفع طلباً لوزارة الصحة في رام الله، ونطالبها بتحويله للعلاج بأسرع وقت إلى أي مكان.. وتمضي الأيام.. فلا أوراق تحويلة طبية تأتي، ولا علاجات تسد الحاجة تصل.. وتجلس قبالته في المشفى ترمقه وهو يعارك المرض.. وهو يذوي.. وهو يصارع الموت.. وتشهده عندما يُسلم الروح.. تصرخ تبكي.. تشعر بالقهر، بالظلم.. ولكن.. من يسمعك؟ من يتألم لألمك؟ من يستجيب لحاجتك؟ ولكن تذكر.. فأنت في حكمهم خارج عن البشرية وخارج عن الشرعية، ألست أنت من اختار؟ فتحمَّل إذن..

 

وتصور أيضاً، أن ابنك أصيب برصاصة متفجرة في ساقة.. فتَّتت عظامه وسحقتها.. حاول الأطباء إيقاف النزف، ولكن.. ما من حل سوى البتر، فإما أن تُبتر ساقه، أو تبتر حياته.. لماذا؟ أرجوكم! لا تفعلوها.. ما من إمكانيات علاجية في القطاع: يأتيك الجواب.. ثم يستيقظ ولدك صارخاً.. أبي أعد لي ساقي؟ لماذا لم تأخذني يا أبي إلى مشفى يحافظ عليها وعلى حياتي؟ لماذا يا والدي لم تعالجني خارج القطاع؟ ماذا ستقول له؟ أتقول إن سلطتنا يا ولدي قد منعت عنك الدواء؟ وآثرت أن تتركك تنزف فإما أن يمضي بك الردى وإما أن أُضطر لأن أثور على من يدافعون عن ثرى القطاع؟ وأنت تعلم يا ولدي فلكل شيء مقابل وضريبة، وثمن بقاء ساقك مرتفع جداً يا ولدي.. يساوي ثمن الخيانة.

 

وتخيل أيضاً لو أنك محاصر في بقعة كالقطاع، لديك زوجة فشلت كليتيها، ولا بد لغسل كليتيها مرات أسبوعياً لتأجيل نهايتها.. تذهب ذات يوم فإذا بالقسم مغلق.. ماذا؟ لماذا؟ أين؟ لقد أغلق القسم بأمر حكومي! موازنات المشافي قُلصت، ولهذا أقسام كثيرة قد أغلقت، والطواقم العاملة فيها قد سُرحت.. وكيف سأغسل لها وأين أذهب بها.. هي لن تحتمل.. بضعة أيام وينتهي كل شيء.. أرجوكم. في هذه الحالة ماذا ستفعل؟ هل ستتركها تموت أمام عينيك؟ أم ماذا تملك من قرارك؟

ضع نفسك مكاني ومكان آلاف غيري، وتخيل أنك تقاسي ما نقاسي، وتتألم كما نتألم.. واسأل نفسك.. هل غزة تستحق أن تُفرض عليها العقوبات التي ترمي إلى تركيعها، وجعل حياتها جحيماً
ضع نفسك مكاني ومكان آلاف غيري، وتخيل أنك تقاسي ما نقاسي، وتتألم كما نتألم.. واسأل نفسك.. هل غزة تستحق أن تُفرض عليها العقوبات التي ترمي إلى تركيعها، وجعل حياتها جحيماً
 

أرجوك أكمل معي.. تصور حالك وضع نفسك مكاني.. انظر لفقرك وعوزك.. عزيز قوم ذل.. وأنت عاجز الآن عن تلقي أية تحويلات مالية من أخيك وصديقك وقريبك.. أو من يرغبون بمساعدتك، ويتعاطفون معك.. وحتى الجمعيات الخيرية التي تعلم بحالك وطالما مدت يد العون لأمثالك وأعانتك على احتمال نوائب الدهر، جُمدت التحويلات إليها، وجففت منابعها، كل ذلك حتى يتركوك وحيداً عاجزاً مقهوراً.. ويا ليتهم يكتفون بذلك!.. بل يفرضون على كل سلعة تستهلكها وتحتاجها ضرائب لا قِبَل لك بها.. وكأنهم يقولون لك: تجمد مكانك، لا تأكل لا تشرب لا تتنفس لا تعيش.. الموت أفضل لك، والقبر أنسب مكان لمن تمردوا على أسيادهم أمثالك.

تذكر حصارك، وتصور نفسك في مكاني، فلو أنك كنت أسيراً تقاسي مرارة السجن وقسوة السجان.. وهناك في البقعة المحاصرة تركت خلفك ذرية ضِعاف، يؤنسك أن من حق الأسرى والشهداء راتب يقضي حاجات ذويهم، ويسد رمق أهلهم.. ثم تأتيك الصدمة التي لم تتوقعها يوماً.. لقد قُطعت رواتب الأسرى والشهداء كجزء من الإجراءات العقابية على القطاع.. يا إلهي! ماذا ستفعل زوجتي؟ وكيف ستتدبر أمي؟ وأين سيذهب أبنائي؟ هل سيطردهم صاحب البيت؟ هل سيمضون أيامهم عراة جوعي؟ أم أنهم سيطرقون الأبواب يتسولون رغيف العيش؟

تسأل نفسك: هل تُصنف السلطة المسؤولة عنك من صنف البشر؟ وماذا ستفعل يا تُرى لو أنك كنت جزءاً من تلك الحالات المنكوبة في قطاع غزة؟؟ كيف ستتصرف؟ أرجوك.. ضع نفسك مكاني ومكان آلاف غيري، وتخيل أنك تقاسي ما نقاسي، وتتألم كما نتألم.. واسأل نفسك.. هل غزة تستحق أن تُفرض عليها العقوبات التي ترمي إلى تركيعها، وجعل حياتها جحيماً، لأنها اختارت من مقاومة المحتل بشتى الطرق سبيلاً لها؟ غزة ليست متمرة، ولا ظالمة.. غزة أرادت فقط أن تكون حرة أبية ورفضت أن تكون خائنة. ارفعوا العقوبات عن غزة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.