شعار قسم مدونات

الإنسان والبحث عن معنى!

blogs تأمل

دأب الفلاسفة والمفكرون والفنانون منذ فجر التاريخ في البحث والمحاولة للإجابة على سؤال معنى الحياة، هل ثمة من معنى لكل هذا؟ لماذا علينا أن نكمل هذه الحياة؟ ثم كيف لنا أن نكملها بشغف وإيمان؟ في الإجابة على هذا السؤال تجد أصناف شتى من الأفكار والفلسفات والإيديولوجيات التي تمتد وتتشكل بين قطبين متباعدين: فهنالك وجه نظر الدين ووجه النظر غير المؤمنة بوجود خالق، وكلاهما لديه إجابته أو تفاعله الخاص تجاه هذا السؤال، على أنني أجد أن أي منهما بنموذجه التقليدي لم يقدم إجابة تعطي معنى حقيقي للحياة.

فلدى غير المؤمنين الموضوع معقد بطبيعته، فمجرد الإقرار بعدم وجود خالق هو بحد ذاته إقرار بلا جدوى الحياة، فهذه الحياة سوف تفقد كل معانيها وتنهار لديها حتى أبسط قيم الجمال والأخلاق في كون بلا إله، فلا يوجد أي معنى في أن يعجبني منظر طبيعي مثلاً ما دمت لست سوى "حثالة كيميائية" استقبلت للتو مجموعة من الإشعاعات الكهرومغناطيسية فسرها عقلي على أنها مجموعة من الأشجار والورود والعصافير ولسبب أجهله في البرمجة اختار عقلي أن يكون هذا الأمر جميلاً، أي أن خللاً بسيطاً – وربما عبثياً – في التشفير كان سيجعل من هذا المنظر شيئاً مقززاً ومثيراً للاشمئزاز، هكذا ببساطة، فلا قيم ولا معاني عليا.

قال لي صديقي تزوج وأنجب طفلاً وأحب عائلتك عندها سوف تخشى أن تكسر بخاطرهم وسوف يصبح لحياتك معنى، لكن هل يرضى الإنسان بالنهاية بهكذا معنى؟

فالملحد المخلص والمدرك جيداً لإلحاده لابد أن يكون مذعوراً في هذه الحياة وغير مقتنع في أي جدوى لها، ايميل سيوران يقول: "نحن في كون لا لزوم له لذلك تستوي الأسئلة والأجوبة" في هذا مثال واضح على عبثية وعدم جدوى السؤال نفسه، ويقول ليو تولستوي في إحدى مقالاته أن الشجاعة الحقيقية في هذه الحياة هي الانتحار! وربما كان ذلك أيضاً سبب محاولات فريدريك نيتشه المتكررة للانتحار ثم انهياره في آخر حياته.

أمّا نحن كمؤمنين لدينا إجابات واضحة، فنحن هنا لأن الله وضعنا في امتحان وحالما ينتهي الأمر سنعود كلنا إليه، حسناً، هذا يقطع علينا نصف الطريق، لكن هل علينا أن نكون ميتافيزيقيين دائماً في الإجابة على هذا السؤال ؟ ألا يمكن أن نجد قيم وعناصر من هذه الحياة نفسها تصبغ عليها المعنى دون الاستعانة في الما وراء؟ ففي إجابة كهذه نحن نقول أننا على قيد الحياة لأننا سوف نموت في النهاية ونعود للحياة الأصلية، أي أن هذه الحياة لا قيمة لها، لا أظن أن الدين نفسه – وبالذات الإسلام – يريد هذه الإجابة وهذا الاختزال للحياة.

إذاً فأين الخلاص، وكيف يمكن لنا أن نخرج من هذا المأزق؟ في حوار مع أحد الأصدقاء كنا نتحدث عن مقال سيجموند فرويد "عن الزوال" والذي تكلم فيه أنه كان يمشي مع صديقه الشاعر في مكان جميل وأن صديقه لم يستطع أن يستمتع بجمال المكان لأن فكرة أن هذا كله سوف يزول تستحوذ على تفكيره وتنغص عليه، كان فرويد معارض له ويبدو أنني كنت أقرب الى تفكير الشاعر، في النهاية قال لي صديقي تزوج وأنجب طفلاً وأحب عائلتك عندها سوف تخشى أن تكسر بخاطرهم وسوف يصبح لحياتك معنى، لكن هل يرضى الإنسان بالنهاية بهكذا معنى؟ فهو أولاً قائم على العاطفة لا العقل وثانياً مستمد من الغير لا من ذات الإنسان، فهل يمكن للعاطفة أن تحمل ما فشل العقل في حمله ؟ وهل يمكن حقاً أن يستمد الإنسان قيمه الحياتية من حبه لغيره؟

لا بد من المغامرة ومواصلة الحياة والانكباب عليها بكل أبعادها علّنا نصل الى ذروة التجربة، فهكذا - بحثاً عن المعنى - نستطيع أن نواصل الحياة بشغفٍ وأمل
لا بد من المغامرة ومواصلة الحياة والانكباب عليها بكل أبعادها علّنا نصل الى ذروة التجربة، فهكذا – بحثاً عن المعنى – نستطيع أن نواصل الحياة بشغفٍ وأمل
 

وفي الحديث عن المعنى لا ننسى المقهورين والمنكوبين في هذا العالم، الذين يبحثون عن الحياة فضلاً عن معنى لها، الذين ربما تحركهم غريزة البقاء فقط للبحث عن مجرد أمنهم الشخصي وقوت يومهم، الذين يصارعون الأمراض والأوجاع كل يوم، لدى هؤلاء ربما يكون الحديث عن معنى مجرد ترف فكري لا لزوم له، أو ربما هم بالذات من علينا أن نبحث في داخلهم عن معاني الحياة، فهم وحدهم من جربوا قبح هذه الحياة وعاشوا معاناتها وتجرعوا مرارتها، إنهم هم بالذات من علينا أن نسألهم عن معنى الحياة.

في النهاية أعتقد أن الإنسان غير متوقع بالشكل الذي تدعيه الكثير من الفلسفات، فلا أعتقد أن معاني عليا كالتي أنشدها في هذا المقال يمكن التوصل إليها بالنظر العقلي الخالص على طريقة الفلاسفة اليونان ولكن لا بد أن تكون واقع متحقق وتجربة مُعاشة، عندها فقط يتذوق الإنسان هذه المعاني ويجد نفسه مغموراً ومحاطاً وبالتالي مؤمناً بها، وفي سبيل ذلك لا بد من المغامرة ومواصلة الحياة والانكباب عليها بكل أبعادها علّنا نصل الى ذروة التجربة، فهكذا -بحثاً عن المعنى- نستطيع أن نواصل الحياة بشغفٍ وأمل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.