شعار قسم مدونات

نظرة اقتصادية على انخفاض الليرة التركية!

blogs الليرة التركية

شهدت الليرة التركية منذ أيام قليلة انخفاضاً حاداً في قيمتها حيث قارب الدولار أن يبلغ 5 ليرات تركية لولا تدخل البنك المركزي يوم الأربعاء 23/5/2018 برفع سعر الفائدة بمقدار 300 نقطة أساس لتصبح 16.5 بالمئة بعد أن استقرت لفترة ليست بقصيرة على 13.5 بالمئة. فعلى الرغم من تدهور سعر صرف الليرة أمام الدولار منذ نوفمبر 2017 والذي تجاوز 3.81 إلا أنَ بطئ تجاوب الحكومة التركية مع تلك التطورات وعدم أخذها إجراءات حاسمة إزاء تفاقم وضع الليرة وخصوصاً بعد إعلان شركة التقييم S and P عن خفض تصنيف الدين السيادي من "B/B" إلى "BB-/B" في بداية شهر مايو، بالإضافة إلى استمرار ضغوط الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على البنك المركزي، كل ذلك لعب دوراً ما في ازدياد تدهور قيمة الليرة التركية لتسجل مستوىً قياسياً منخفضاً جديداً عند 4.92.

وهنا نطرح سؤالاً شائكاً لطالما تردد في الخطابات المتكررة للحكومة وتم تبنيه بشدة من قبل العديد من وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وهو هل العوامل السياسية والتي من ضمنها ادعاء وجود مؤامرات خارجية تستهدف الاقتصاد التركي كانت السبب الوحيد في ذلك التدهور الذي رافق سعر صرف العملة التركية؟!

منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في 2002 تمكن من تحقيق انجازات مبهرة لا يمكن التغاضي عنها، فقد تمكنت الحكومة من الوصول إلى معدلات نمو اقتصادي عالية حيث بلغ النمو الاقتصادي 8.8 بالمئة و9.2 بالمئة في كل من عامي 2010 و2011 على التوالي، وما تزال تعتبر معدلات نموها من أعلى معدلات النمو الاقتصادي في العالم، حيث أظهرت البيانات الاقتصادية لعام 2017 التي نشرها المعهد الإحصائي التركي تحقيق معدل نمو بمقدار 7.4بالمئة.

معدل الدين الخارجي يعكس صورة مهمة عن وضع مديونية الدولة اتجاه بقية دول العالم، ويعد من المؤشرات الاحصائية التي تعتمد عليها شركات التقييم العالمية بتقييم القدرة الائتمانية لدول العالم

فبينما وصل معدل البطالة إلى أدنى مستوى له في عام 2012 عند 8.4 بالمئة، كانت تركيا أيضاً قدد تخلصت من معدلات التضخم المرتفعة لتحقق أدنى مستوى لها في عام 2012 عند 6.16 بالمئة، ناهيك عن الازدهار والتقدم التي حققته تركيا في الفترة الأخيرة في البنية التحتية بما يتناسب مع معايير جذب الاستثمارات الأجنبية. في حين أننا لا نستطيع نفي وجود أسباب وتلاعبات سياسية مقصودة بهدف هز الليرة التركية، هنالك أسباب اقتصادية موضوعية بحتة حاولت الحكومة التركية عدم أخذها بجدية واضحة، الأمر الذي أدى إلى تعرض الحكومة إلى انتقاضات لاذعة من قبل العديد من الأطراف المحلية والدولية.

ومن أهم هذه الأسباب معدلات العجز المرتفعة في الحساب الجاري حيث بلغ العجز في الحساب الجاري 6.8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في ديسمبر 2017 بينما كان قد سجل أعلى مستوىً له بما يقارب 11.4 بالمئة في عام 2011. ويعد معدل العجز في الحساب الحالي مؤشراً اقتصادياً هاماً يعكس مدى تأثير التعاملات مع اقتصادات العالم الخارجي على صحة الاقتصاد المحلي، وعلى الرغم من عدم وجود نسب مثالية محددة لمقدار ذلك العجز إلا أنّ خطورة ذلك العجز ترتبط بنوعية الإجابة على السؤال التالي: هل هذا العجز نتيجة تمويل منتجات استهلاكية أم أنه وُجِّه في تمويل مشاريع إنتاجية كفوءة؟!

إن معدل الدين الخارجي مقياس أخر يعكس صورة مهمة عن وضع مديونية الدولة اتجاه بقية دول العالم، ويعد أحد أهم المؤشرات الاحصائية التي تعتمد عليها شركات التقييم العالمية في تقييم القدرة الائتمانية لدول العالم. في 2017 تجاوز معدل الدين الخارجي في تركيا 53 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي مقارنة ب 47.33 بالمئة في السنة الماضية، إن هذا المعدل يعتبر مرتفعاً نسبياً مقارنة مع الدول النامية الأخرى كالبرازيل وكوريا الجنوبية وتايوان وتايلاند والتي تبلغ معدلاتها 26.6، 27.3، 31.7، 35.3 على التوالي، وقد يرتبط بآثار سلبية تنعكس مباشرةً على سعر صرف الليرة التركية. ويعد انخفاض الادخارات الوطنية هي أيضاً نقطة ضعف أخرى يواجهها الاقتصاد التركي. إن الادخار هو عبارة عن الناتج المحلي أو الدخل يطرح منه الاستهلاك ليتم توظيفه فيما بعد في الاستثمارات المختلفة.

تعتبر معدلات الادخار في تركيا منخفضة نسبياً حيث بلغت 25.1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في ديسمبر عام 2017 والتي من شأنها أن تزيد من الضغوط على سعر الصرف. أيضاً إنّ انخفاض الادخارات الوطنية في اقتصاد دولة ما يجعلها بحاجة ماسة لاستقطاب رؤوس أموال خارجية تقوم من خلالها بتمويل استثماراتها، لكن تكمن الخطورة هنا في الاعتماد المكثف على تلك المصادر الاجنبية التي قد تتدفق خارج البلاد في أي لحظة تشعر بخطر يهددها، كما حدث في دول جنوب شرق أسيا عام 1997 عندما تعرضت أسعار صرف عملاتها إلى سلسة من الانخفاضات المتسارعة بعد حدوث موجات كبيرة من تدفقات رؤوس الاموال الاجنبية إلى خارج البلاد أدت حينها إلى أضرار اقتصادية مدمرة.

تدخلات الحكومة الواضحة في سياسة البنك المركزي حول سعر الفائدة شككت بمدى استقلالية البنك المركزي وقدرته على ضبط معدل التضخم 
تدخلات الحكومة الواضحة في سياسة البنك المركزي حول سعر الفائدة شككت بمدى استقلالية البنك المركزي وقدرته على ضبط معدل التضخم 
 

وفي تركيا ارتفعت مجمل تدفقات رؤوس الأموال من 23 مليار دولار في 2016 إلى 38.9 مليارر دولار في 2017 بعد أن كان قد حقق مستويات مرتفعة في كل من 2012 و2013 والتي بلغت 72.67 و73.46 مليار دولار. أضف إلى ذلك أحد أهم الأسباب التي ساهمت في تدهور قيمة الليرة التركية، وهي ضعف استقلالية البنك المركزي الذي يعتبر وفقاً للنظم الديمقراطية مؤسسة مستقلة بذاتها.

إن تدخلات الحكومة الواضحة في سياسة البنك المركزي حول سعر الفائدة شككت بمدى استقلالية البنك المركزي وقدرته على ضبط معدل التضخم ومدى انعكاس ذلك على سعر صرف الليرة. هناك عدة عوامل اقتصادية أخرى ساهمت أيضاً في زيادة الضغوط على الليرة التركية أهمها ارتفاع أسعار النفط العالمية.

تعتبر تركيا دولة غير منتجة للنفط لذلك تعتمد كلياً على الاستيراد من الدول المجاورة حيث بلغ استيرادها في عام 2017 ما يقارب 37.19 مليار دولار مقارنة ب 27.16 مليار دولار في 2016 حيث يعود ذلك الفرق إلى اختلاف الأسعار العالمية للنفط مع مرور الزمن، الامر الذي يؤدي إلى ارتفاع فاتورة مستورداتها من النفط كلما ارتفعت أسعاره العالمية.

أخيرا تتصف عادة الدول النامية بمعدلات نمو عالية تترافق معها تذبذبات مستمرة في سعر صرف عملاتها وبالتالي تشكل بيئةً مناسبةً جدا للمضاربين والمستثمرين في الفوركس على المدى القصير وهذا ما يجعلها عرضةً للتقلبات الشديدة التي قد تسبب ضرراً ملموساً على اقتصاد البلاد.

النمو مقابل التضخم:
لابد أن ندرك أنّ الاقتصاد التركيَّ يعاني فعلاً من مشكلة اقتصادية حقيقية يجب أخذها بكامل الجدية من قبل السلطات التركية والعمل عليها

إن من المعروف أن معدل النمو الاقتصادي هو أكثر ما تهتم به الحكومات المتعاقبة لكونه أفضل مؤشر اقتصادي يعبر عن حالة الاقتصاد بشكل عام بالإضافة لكونه وسيلةً لجذب الرأي العام لارتباطه الوثيق بمؤشر البطالة، فتقوم بتحفيزه من خلال استخدام سياستها المالية وحثها البنك المركزي على استخدام سلطته النقدية بتناسق وانسجام مع سياساتها.

في حين نرى أن المهمة الرئيسية للبنك المركزي هي ضبط معدل التضخم وتحقيق استقرار أسعار الصرف من خلال استخدام السياسة النقدية والتي يعتبر معدل سعر الفائدة أهم أدواتها. من هنا نستطيع رؤية إمكانية حدوث نوع من التصادم بين السياسة المالية والسياسة النقدية فبينما تسعى الحكومة إلى زيادة النمو الاقتصادي عبر المزيد من الإنفاق الحكومي نجد البنك المركزي يحاول جاهداً ضبط معدلات التضخم من خلال رفع سعر الفائدة والتي تعتبر مثبطاً للنمو الاقتصادي كونها غير مشجعة على الاستثمار.

في نهاية هذا المقال ودون التقليل من أهمية العوامل السياسية في تأثيرها على قيمة الليرة التركية، لابد أن ندرك أنّ الاقتصاد التركيَّ يعاني فعلاً من مشكلة اقتصادية حقيقية يجب أخذها بكامل الجدية من قبل السلطات التركية والعمل عليها من خلال عدة محاور أهمها:

1- العمل على تخفيض معدلات الدين الخارجي من خلال محاولة ضبط العجز في الحساب الحالي بما يساهم في خلق قيم مضافة حقيقية تصب ليس فقط في تحقيق معدلات نمو اقتصادي بل أيضا في تطوير وازدهار الصناعات التكنولوجية.

2- تشجيع الادخار الوطني والحد من الاعتماد المكثف على رؤوس الاموال الخارجية.

3- العمل على تحقيق مبدأ الاستقلالية التامة للبنك المركزي التركي واحترام قراراته فيما يتعلق بالسياسة النقدية، والتنسيق والتعاون بين كل من السياستين المالية والنقدية بشكل يخدم استقرار اسعار الصرف وتحقيق معدلات نمو اقتصادي مقبولة.

4- الإسراع في إقامة مشاريع تخص مجال الطاقة كبديل جزئي عن النفط الخام.

5- وضع المزيد من القواعد والضوابط القانونية على التعاملات في أسواق الفوركس لكي تحد من التقلبات المستمرة في سعر صرف الليرة التركية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.